شعراء المقاومة.. أم مقاومة الشّعراء
أمل إسمـاعيل، شاعرة فلسطينية مقيمة في الإمارات
ما الذي يبحث عنه الشاعر حين يغمضُ عينيه ويشعلُ روحه بأطراف أصابعه ثم ينفث دخان الأمل الخادع بحثًا عن كلمةٍ مواربةٍ تصفُ الحال، وتتجاوز ما تعرفه إلى ما تريده؟ ما الذي يبحث عنه إنسانٌ مشطوبٌ من دفاتر الأحياء – وإن سُجّل اسمه فذاك لدواعٍ أمنيّةٍ محضة! – ينتظرُ رصاصةً، قنبلةً، أو لا ينتظرُ شيئًا البتة.. لا فرق! ما الذي يجعلُ شاعرًا معاصرًا مُحاصرًا لا يكسرُ يراعه، ولا يدوس على قصيدته، ولا يتفلُ على خياله!
يحدثُ ذلك في غزّة، المدينة المُحاصرة التي يسكنها الموتُ الخالد، فـ”كل شيءٍ فانٍ هنا إلا الموتى.. الموت هنا هو الأبديّة..”[1]
***
شعراءٌ يبحثون عمّن يكرههم[2]!
مذ عرفت فلسطين طعم الثورات والإضرابات ثم النكبة فالنكسة، نبتت قصائد مُقاوِمَة، وزيّن الشعراء الفلسطينيون صدورهم بنيشان (شاعر المقاومة)، أصبحنا وأمسينا على تلك اللقمة المُرّة في حلق الشاعر، وبالكاد خرجنا منها وتجاوزناها لنعيد تعريف الشعر بإنسانيّته لا بموقع رحاه حتى عدنا إلى نقطة الصفر مرّةً أخرى، وأطبق على شعراء غزّة – هذه المرّة – شعر المقاومة بفكّيه، لنطالبهم بشعرٍ مُعاصرٍ مُلتزم يُلبّي واقع حالهم – الذي سُقناهم إليه سوقًا – فيأتي نصٌّ للشاعرة فاطمة محمود أحمد مُعبّرًا بصدقٍ عن واقع الحال، إذ تقول:
“أنتم لستم مثلي!
أنتَ أيها الأنيقُ لستَ مثلي
وأنتِ يا سيدةَ الفستان لستِ مثلي
أنا لديّ عيونٌ تختلفُ
لديّ بلادٌ تنتظرُ
لديّ حُبٌّ لا ينطفئ! (..)
أنا العشبُ البريُّ!
فمن تكونون؟
***
أجل؛ “قصيدةٌ تكتبُ في الدفء مشكوكٌ في أمرها”، هذا ما يقوله الشاعر والناقد الفلسطيني محمد تيسير في تقديمه للأنطولوجيا الشعرية (غزّة أرض العزة)، حيث مثّل غزّة من شعرائها المعاصرين 17 شاعرًا وشاعرة. يقول تيسير: “وأخبرُهُ كم أنّ القصيدة التي تُكتبُ في الدفء مشكوكٌ في أمرها، وأن على شعراء فلسطين مقاساة جميع أنواع البرد والجوع والقسوة، ليعرفوا أن القصيدة الجيدة تدفئ وتشبع وترقق القلب المهجر! ثم سنغنّي سويًّا جورج قرمز، ونضحك…” .
ولكن، أي ضحكة تلك التي ستجيءُ بعد القسوة! ضحكةٌ مشقّقة الشفتين، ربما. شعراء غزّة يشبهون مجايليهم في إنسانيتهم، ويختلفون عنهم في بحثهم المضني عن مفرداتٍ مألوفة، تشبه حقيقة معيشتهم التي تنكرها الإنسانية، وتركض فارّةً منهم كما يركض امرؤ من مطاردة ذئب. فإن كان غسان كنفاني يرى في أن الشاعر الشاب عادة ما “يبدأُ تجربته غالبًا برفض القيود التي يفرضها المجتمع الريفيّ على علاقات الرجل بالمرأة، أو الأب بالابن، إلا أن هذا الرفض ما يلبث، وبصورة متسارعة، أن يأخذ أبعاده وأعماقه، ويتوصل إلى الارتباط بآفاق التحدي المختلفة التي تواجه المواطن العربي في الأرض المحتلة، ليخرج من ذلك كله بالصيغة النهائية الراهنة، وهي إعطاء أدب المقاومة بعده التقدّميّ، الاجتماعي، العربي، والعالمي”[3] فإن شعراء غزة لا يبحثون عن المقاومة في شعرهم، بل عن مقاومةٍ لولادة الشاعر المسخ بينهم، فأيّ قصيدة ستمجّدُ الوطن وأنت تخشى من ضياعِ ما يجعلُ منك معناك: “هل تدرك معنى أن ينمو في جسدك إرث الهزيمة والخوف والضعف ومرارة حليب الثدي..؟؟”[4] أو أي قصيدة ستحملك إلى مقاومةٍ للحياةِ حين تُنكرك الحياة، فتتلبّسكَ البلادة:
“لم أعد أكترث..
كيف يفترض أن أعيش
أو كيف سيغدو مستقبلي
كيف عانيت في الماضي
وكيف تشوّه تفكيري (..)
أفكّر أحيانًا..
كيف أجعلُ من نفسي كومة قشّ
وكل أحاديث الناس الذين قابلتهم
مجرّد إبر..
تتوه في داخل عقلي
يصعبُ إيجادها
وسهلٌ نسيانها..
أظنّ أنني..
قد وصلتُ إلى مرحلةٍ متطورة
من اللا اكتراث
ذاك الشعور
الذي يجعلني مبتسمًا
طوال الوقت
من دون الحاجة
إلى أن أكون سعيدًا..”[5]
***
فلنتّفق أن الشعراء في غزّة طلّقوا الشعر لأغراض الالتزام الجماهيري، والمقاومة، والحرب، والمعارضة، والاحتجاج، والسياسة، طلّقوا كل تلك الكليشيهات.. وحفروا أنفاقهم ليحرّروا الكلمات التي يريدونها.. هكذا، كما يريدونها، لا كما نتوقّعها نحن:
“أنتَ ترى هواءً حالمًا،
زوبعةً ترفضُ أن تنمو كإعصارٍ يتيمٍ يركضُ بلا وجهة.
أنتَ لا تراني
بل “ما أريد”[6].
***
يقول جبر شعث مُحلّلًا المشهد الشعري في غزة: “وبعد أن كان المضمون حبيس رومانسية الثوار، والبكاء على الفردوس المفقود – حتى لو كان بكاءً كذباً – وما يلزم هذا البكاء وتلك الرومانسية الباهتة من مفردات من قبيل الرصاص والحجر والمخيم والسجن وما شابه. وظهرت مفردات جديدة بدت للوهلة الأولى غريبة عن المشهد الشعري بغزة، معظمها كان يدور في مدار الأنا والآخر المشابه لها، والآيروسية والإنسانية. ولا يجب أن يُفهم من هذا التحول أن شعراء غزة قد تخلوا إلى غير رجعة عن قضيتهم الوطنية، قضية الأرض والإنسان والحقوق والثوابت، ولكنهم اجترحوا أساليب ومفردات أخرى للتعبير الفني عنها، وبشكل أكثر إبداعًا وتفاعلًا”[7].
نتساءل: ما القضية الآن؟ أهي قضية فلسطين؟ قضية تحرير أرض؟ قضية حصار؟ قضية سياسة؟ أم قضية البحث عن مفرداتٍ إنسانية لأناسٍ يولدون كلّ يومٍ على أملٍ خادعٍ بأنهم على قيد الحياة، بأن كل من حولهم يساوونهم في الحقوق والواجبات، ولكنهم وحدهم ممنوعون من حقوقهم، مطالبون بواجباتهم. شعراء غزّة يكتبون عن الحانات ولا يعرفونها، يكتبون عن العشيقات ولا يسمح لهم بالاقتراب إلا من ابنة العم، يصفون تقارع الكؤوس التي تُراق خلف المعبر على أسمائهم فتُسكرهم!
يُنفى شعراء غزّة مرّتين؛ داخل قصائدهم، وداخل غزّة. فهم في كل الأحوال منبوذون من محيطهم إن خَرجوا عن العُرف وقطعوا الحبل السّريّ للعيب، وهم منبوذون إن طارت قصائدهم خارج غزّة وصارت تعبيرًا عن رؤيتهم المغايرة الباحثة عن أملٍ يُحيي فيهم مواتًا. إنهم خَوَنةٌ مرّتين، وفي كل الأحوال.. موتى، مرّتين، والموتُ في غزّة حياة!
تقول الشاعرة مروة عطيّة:
“وهناك موتٌ بطيءٌ، يجيءٌ ولا يجيء
خمسون طبقةً من الجليد
وفوقها خمسون
وخمسون
وخمسون
أحملُ معولي منذ تسعٍ وعشرين سنة
في حقيبتي
وأحطّم الجليد”
وينادي الشاعر أدهم العقاد:
“يا الله تعال (..)
تعال لترانا كما نحن ساخرين من سخط السوط ومن دمنا الساخن على الصليب ومن دين البشرية الهشّ (..)
تعال اخرجني قبل أن نكفر بالحب قبل أن نتعرّى وحيدين أمام الملأ
وكلٌّ منا يستمني على فضائله”
***
كيفَ نقرأ شعراء غزّة المعاصرين؟
تحدثُ الحياةُ على غفلةٍ في غزّة، ولذا، فإن شعراءها لا يكترثون بمن يقرأ لهم.. هكذا، تولد القصيدة، وتموت ربّما تحت الركام، ربما كفاطمة، بعد أن جرّبت الموت عدّة مرات فلم تعد تكترث وصار الموت يزورها ليبكي على كتفها – كما وصفها محمد تيسير – ولكنها كتبت لأن القلم ما زال في يدها. ولكننا قُرّاء، ونقّاد، ونحب أن نمارس دورنا على النص؛ فنشرّحه، ونقطّع أوصاله، ونمعن في اختبار أدوات الشاعر – المحاصر – لنرى معجزاته اللغوية التي اجترحها، وهو ما يؤكد عليه الأديب المصري رجاء النقاش الذي سبق ونقد قصيدة المقاومة مؤكدا “أن الحكم بنضجها وروعتها من الناحية الفنية والفكرية ليس راجعًا إلى تعاطفنا السياسي أو النضالي مع هذه الحركة، بسبب ما يعانيه أصحابها من الشعراء الشبان في ظروف حياتهم الصعبة”، فإن كان الشعراء الغزّيون نفوا عن أنفسهم شعر المقاومة وانطلقوا إلى أبعاد أرحب، فإننا لن نترك قصائدهم كما تركناهم يحاصرون. القصيدة لها جناحان، وتطير، وهي الآن حقيقتهم الوحيدة، وأرشيفهم الأخير للصّور:
“كمن لا يعرفُ أعرف، كمن لا يريدُ أريد؛ أنا النّاطقُ الأخرس، كليمُ جدرانٍ من رثاءٍ يكفر بالرّاثي (..) أنا الراسخ في عقل الكلام، بدأتُ منتهيًا، وكانت النهاية رصيفًا للصّور”[8]
فلنقرأ إذن شعراء غزة كما نقرأ لأي شاعرٍ يعيشُ ويموت، ولنمنحهم إنسانيتهم، ونصادق على عذاباتهم فلا ننكر عليهم أحلامهم ولا ضعفهم وهشاشتهم، ولا شهواتهم ولذاتهم، ولا شجاعتهم وجبنهم، ولا أساطيرهم وقلّة حيلتهم. فليكونوا كما يشاؤون في القصيدة، وليخبزوا كلماتهم على الطابون أو في مخابز أوتوماتيكية – إن نعموا بجرعة كهرباء لا تنقطع، فليلعنوا الحرب أو ينكروها.. ما الفرق إن كنّا في كل الحالات عنهم في غياب!
“هل من أحدٍ هنا شجاع بما يكفي
كي يلعن الحرب المتخفّية في خبزنا”[9]
***
متى سيفتحُ العالمُ الجريدة؟
لا يبدو إطلاقًا بأن العالم يقرأُ الأخبار، ولهذا فإن الشاعر أحمد السّوق لا يكفّ عن انتظاره للحبيبة التي قد تأتيه على موعدٍ يضربهُ معها، أو قد تأتيه محمولةً على كفن، سيّان! تفاؤل الشاعر في غزّة يعني يأسهُ بحريّة – كما يقول قاسم حدّاد – ففي غزّة لا شعراء ينتظرون.. إنهم مطرودون من الجنّة وكفى!
“بعد أسبوع
سينتهي كل شيء،
وسنكون بخير
سيفتحُ العالم الجريدة
ويُسرعُ لإنقاذنا” (..)
لقد ظنّوا أنني متّ،
لكنني كنتُ بانتظارك”[10]
القصيدة الحاجز… القصيدة البَراح
المتأمل للقصائد المُختارة في أنطولوجيا شعراء غزة ينتبهُ إلى قلم المرأة الحاد كمبضع جرّاح، إلى تلك الأنفةِ والانطلاقة الجريئة لمن لم يعد يكترث.. أجل، دفعت شاعراتٌ ضريبة أقلامهن وهربنَ بتيجان الشعر إلى ممالك أخرى خارج غزّة، لكنّ أخرياتٍ ما زلن قادراتٍ على المقاومة.. لا بشعرٍ مقاومٍ وإنما بمقاومةِ الشاعر لأسباب نفيهِ وحصاره وقولبته في قوالب اجتماعية جاهزة للتصدير، بأسماء صريحة وصدور عارية تتلقى الرصاص، فماذا بعد الموت الجماعي؟ وماذا بعد دكّ البيوت على رؤوس أصحابها؟
يقول محمد تيسير عن اختياراته الشعرية: “هذه نصوص تفلح، ببراعة مدهشة وأنفة منتظرة واقتدار فني أكثر إدهاشا، في تفادي التعبير عن الحصار بطرائق مباشرة أو تقريرية أو تقليدية؛ وليس هذا الخيار يسيرا في ضوء ما نعلم عن شرط الحياة اليومية في القطاع الفريد، داخله وخارجه، على أصعدة شتى لا تغيب عنها سلسلة الرقابات والقيود والمعوقات. ولهذا فإن ما تعكسه القصائد من مؤشرات الجسارة، وهي مؤشرات وجود بشري حيوي ومقاومة تعددية مستدامة في آن، لا تبدأ من غلبة قصيدة النثر على شكل الكتابة، أو انكباب الموضوعات على تصعيد تفاصيل هامشية وذاتية و”قطاعية” بامتياز إذا جاز القول، تقارب الملحمي على نحو إعجازي رغم أنها لا تتقصد البطولي؛ ولا تنتهي عند ذلك التناغم الجدلي المفاجئ، وربما المباغت، بين أصوات ذوات شاعرة مؤنثة ونظائرها لدى ذوات شاعرة مذكرة”.
وبطريقةٍ أخرى، ينسجُ الشاعر محمد عوض رأيه في الحاجز:
“بيني وبين العالم حاجزٌ لا تعبرهُ الكلمات،
لكنّي ما زلتُ كما عهدتني..
تفرحني قصيدة..
وتبكيني أغنية.
[1] للشاعرة/ أمل أبو قمر.
[2] في إشارة إلى مقالة كتبها الشاعر الفلسطيني محمود درويش بعنوان “أنقذونا من هذا الحب القاسي” التي نشرت في مجلة الطليعة عام 1968م.
[3] مقتبس من كتاب الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 – 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الطبعة الثالثة 2012.
[4] للشاعرة أمل أبو قمر.
[5] للشاعر محمد شقفة.
[6] للشاعرة روان حسين.
[7] جبر شعث، قراءة نقدية بعنوان “شعر غزة المهاجر”، منشورة إلكترونيا في موقع الإعلام الحقيقي.
[8] للشاعر هاشم شلّولة.
[9] للشاعرة منى المصدر.
[10] للشاعر أحمد السوق.