بمناسبة اليوم العالمي للشعر قمنا في هذا الاستطلاع بفتح المجال لقراء الشعر لمعرفة آرائهم وعلاقتهم بالشعر من قراءة وإلقاء ومتابعة، في عصر يقال أنه) زمن الرواية ( وحيث تشتكي دور النشر من ضيق مساحة القراء ومشاكل الترويج للإصدارات الشعرية.
دائما ما كان يُنظر لكل ما يدور في عالم الشعر على أنه حوار مغلق بين النص الشعري والشاعر، لكن هذه المقاربة تتجاهل كثيراً القارئ الذي يجلس بين الجماهير في العتمة، القارئ الذي يمثل عنصراً أساسياً من وجهة نظرنا في سياق العملية الشعرية بأركانها الثلاثة: النص والشاعر والقارئ. لكننا في هذه اللحظة الهامة والمحاولة الخاصة بملف الفلق حول الشعر العربي المعاصر نود أن نلتفت لقارئ الشعر لنخلق مسارا جديدا يسلط الضوء على علاقته بالشعر وانفتاحه المستمر تجاه عوالمه وأكوانه الواسعة، لنبحث في مكامن تأثره به وتأثيره عليه، بالنظر لتلك الحالة التي يحضر فيها الشعر في حياته وعالمه.
سارة علي / سلطنة عمان
داوود سليمان / سلطنة عمان
أميرة جابر / المملكة العربية السعودية
عصام حجلي / المملكة المغربية
طيف المعمري / سلطنة عمان
سارة علي / سلطنة عمان
أُبصِرُ بالشعر ما لا أُبصِرِهُ بغيره
يمثل الشعر جزءا من تكويني الثقافي والمعرفي وعلاقتي بالعالم والطبيعة، لطالما كان الشعر جزءا من طريقة رؤيتي للأشياء، ومفهومي عن العالم والحياة، وسببا في أسئلتي الأولى، حيث أعود له كلما حُشيتُ بالإجابات، أنبش الأسئلة من جديدة وأستقر على ضرورة خلودها، فأُدركُ أن ثمة طمأنينة خفية قد تُبلَغُ في اتساع السؤال المفتوح على كل الاحتمالات والأجوبة ، وفي الشك الذي لا يمكن قطعه باليقين والإيمان، وأُبصِرُ بالشعر ما لا أُبصِرِهُ بغيره، إذ يوقظ انتباهي دائما لغير المألوف في المألوف واليومي والعادي، وللجمالية التي يعطل إدراكها التكرار والتعود، وكلما أفسدتني وحشية الحياة وجنونها أعود للشعر فيهذبني، إذ يمنحني شعورا عذبا ونبيلا يعيدني لطبيعتي، وحين أدركت كل ما يفعله الشعر بي، صرت أسعى لضمه إلى عادات حياتي اليومية التي لابد أن يتخللها انقطاعات وعودة، باعتباره أسلوب حياة صحي على طريقة جيرار لوغويك: “كل يوم ساعة للمشي، ،ساعة للشعر”.
إنني أنجو دائما بالشعر كما أنجو بالموسيقى، أعود إليه كلما شعرت بالخراب أو الخواء الداخلي ، الذي يتفاقم مع الأيام ، أو عندما أرغب أن أستريح من الركض اليومي المحموم الذي تفرضه علينا تسارع الحياة المعاصرة بصخبها وعبثيتها، ودائما ما أضع كتاب شعر كفاصل لذيذ استريح عنده في اثناء انغماسي في قراءة الكتب الفكرية والفلسفية والتاريخية، أو أثناء انغماسي بالعمل، أحرص عندها على قراءة القصائد بصوتٍ عال لما في ذلك من متعة فمية أحسها مع صوت اللغة وموسيقى الشعر.
مع الشعر أشعر بأنني خارج الزمن، وخارج العالم، فأبلغ تلك الرغبة الملحة عند الإنسان المعاصر كلما شعر بالتعب، الرغبة في أن يخرج من جسده، أو الاختفاء والهرب من كل شيء، حيث الشعر كما يرى سعد البازغي ” لحظة رؤيا متجاوزه، ميتافيزيقية، لحظة كشف تتجلى في اللغة”.
شخصيا لي تجارب عديدة في كتابة الشعر في رحلة تدرجت من القصيدة العمودية مرورا بقصيدة التفعيلة ونهاية بقصيدة النثر، وهي تجارب تخللتها الكثير من الانقطاعات والعزوف عن الكتابة لفترات طويلة ، وبسبب تجارب الكتابة تلك أظن بأنه تكونت لدي حساسية عالية تجاه الشعر، فلا يسعفني في محاولات النجاة إلا الشعر الجيد الهارب من فخاخ التناص، والسياقات و الصور الشعرية والمجازات المكرورة إلى فضاءات اللغة والمتخيل غير المدركة وغير الملموسة، والذي ينقب في المناطق الباهتة والمخفية في الإنسان وفي الحياة ، ويذهب بي بعيدا إلى سياقات اكتشف معها أزمنة جديدة وعوالم أخرى لا يمكن أن تخرج من المتخيل وتُدرك باللغة، فأتماهى مع المعنى عبر جسر حلمي يمتد من لغة الشاعر إلى حسي كمتلقي دون أن يصطدم بظلال اللغة وأسوارها الشائكة، لو كنت مواظبة في كتابة الشعر .. لو كنت شاعرًا لأعدت نبش كل الأسئلة وأثرت عبرها قلقا لا نهائيا.
داوود سليمان / سلطنة عمان
الشعر يجعلنا نعيد ترتيب علاقتنا وحساسيتنا بالأشياء والوجود
الشعر هو الفسحة التي تجعلنا نعود إلى أنفسنا آخر اليوم متخففين من ثقل اليومي، من عالم تتسيده قيم السوق وثقافة الاستهلاك ..هو تجربة المعنى في اللغة التي تجعل من هذا العالم “سكنا لوجودنا ” فاللغة هي مسكن الكينونة يقول هايدجر … الشعر يتيح لنا فرصة أن نفك اشتباكنا مع الواقعي يجعلنا نبحر في الحلم وندخل في تجارب للمعنى جديدة ونعيد ترتيب علاقتنا وحساسيتنا بالأشياء والوجود .. وبعبارة بليغة لهايدجر يقول ” يساعدنا الشعر والشعراء على أن نعبر ليل بؤس العالم “..
لهذا كله أحرص أن يكون الشعر جزءا من قراءتي …
لقراءة الشعر يبقى الليل الوقت الأمثل بالنسبة لي على الأقل عندما يهدأ الضجيج، لأن قراءة الشعر تتطلب ذهنا صافيا وقلبا حاضرا متخففا من مشاغل اليومي. وعادة في جلساتنا مع الأصدقاء والأحبة في سمرنا الليلي كثيرا ما نخصص وقتا لقراءة الشعر ..وليس فقط القراءة ولكن هناك كثير من الأصوات الجميلة العذبة التي تقرأ مختارات قيمة نجدها في منصات الإنترنت المختلفة أستمع لها خاصة عندما أقطع مسافات طويلة بالطريق عائدا من مسقط إلى البلد.
ماذا لو كنت شاعراً؟ لم أفكر في هذا السؤال قبلا، ولم أدخل في تجربة حقيقة سابقا وإن كنت أذكر تجارب محدودة مرة أو مرتين في فترة المراهقة. أقصد محاولة أن أكتب شعرا، أعلم أن الأمر يتطلب حساسية مرهفة باللغة أو قدرة ما على ترجمة الأحاسيس والمعاني لغة .. وإذا ما حصل ذلك في مرحلة متأخرة من حياتي فأظن أني سأختار إن استطعت أن أكتب عن الفرح والحب ..
أميرة جابر / المملكة العربية السعودية
إيماني بالشعر يُحقَّق لي استمراريّة “النَّجاة من المَحدود”
لأن جُذور قلبي العارية مغروسَة بالكامل في تُربة كُلاً من الشِّعر العربي والأجنبي، أجد صعوبة في تحديد ما يُمثله لي الشِّعر العربي وحده .. بالنِّسبة لي ، الأمرُ يُشبه أن تُحاول أن تفصل بين الأنهار الَّتي تلتقي في أبعد نقطة بداخلك ، حيثُ يكمُن هُناك إيماني المُطلق بالشِّعر .. إيمان يُحقَّق لي استمراريّة ” النَّجاة من المَحدود “.
لأن الفَترات الحياتية لا ثبات لأشكالها ، فلا يحتويها لدي سوى الشٍّعر، ففكرة الطقوس تُعيقني ؛ ببساطة أُطلِق العنان لبراءتي حيثما أكون و أرغب .. أمَّا القطيعة لا تَحدثُ بهذا المعنى الحاد وإنَّما هُنالك مساحة من الوقت أمنحُها للنُصوص العظيمة كي تأخذ حقها في الحفر و الإيغال بداخلي لأيام أو حتّى لأسابيع قبل أن أشرع في قراءة ديوان شعري آخر.
الشَّاعر والقارئ يجب أن يكون لديهم وعي مُنفتح تِجاه الشِّعر، هذا الوعي أستطيع أن أُعرِّفه بأنَّه ما يجعَل الذائقة الفنيّة/الجمالية ترتقي وتتكثَّف باستمرار وعُمق بحيث تُصبح كتابةً الشِّعر وقراءته إبداع .أمَّا بالنسبة للعوالم الشعريّة، فإنَّها عوالم لانهائية، ما تريده هو أن يَبقى ما أغترفه منها مُتحرّكًا بفاعليَّة في جسد النَّص ، وذلك لا يتحققَّ إن لم أمتلك أولاً ما تتولّد منه الأسئلة، أي في امتلاك رؤيا شخصيّة في غاية الخُصوصيّة بحيث تُميّز صوتي ولغتي الشِّعرية في ظلّ هذا التّشابه والاجترار الذي يحدثُ الآن باسم الشِّعر، ولكي تجعل من نصوصي نصوص عابرة للزَّمن.
عصام حجلي / المملكة المغربية
نحن في حاجة ماسة للشعر
يرتبط الشعر ارتباطا وثيقا بالحياة، التي لاتستقر على حال، ولاترسو سفينتها على بر، تعيش فيها ذات الإنسان لحظات نفسية متقلبة بين موجة وأخرى، هنا يكون العلاج الروحي والتطهير الداخلي بمفاتيح تخلص الذات من أزمتها النفسية وتشظيها وتخرجها من شرنقة التفكك الذاتي، ومن هذه المسكنات الروحية نجد فن الشعر، الذي يرفعك إلى عوالم السمو والهدوء والرقي، لذا نحن في حاجة ماسة للشعر.
كما يسعى الإنسان في درب الحياة إلى تحقيق التوازن النفسي قدر المستطاع، والدخول إلى دواخله لينصت لذاته بعمق، ويخيط آلامه وجروحه ويغسلها بماء الشعر، سعيا إلى القبض على لحظات صفاء ضدا في الزمن الهارب والمنفلت باستمرار، وضدا في هذا الخراب والدمار والقبح الذي يحيط بنا .
لحظات الاختناق الروحي، ولحظات الألم الوجودي، ولحظات اعتصار الذات ، واقتلاعها من ذاتها ، وهي تبحث عن الخروج من عنق زجاجة التمزق النفسي، هي فترات الحياتية لا يسعفني فيها سوى الشعر.
أما الإبداع فله طقوسه الخاصة، وعوالمه الروحية التي تميزه، فكيف سيكون حال قراءة الإبداع، مادام حال كتابته يفرض على الذات المبدعة شروطا خاصة لممارسة العملية الشعرية، طبعا لحظات الشعر هي فترات وجودية وصوفية، تتطلب عناصر تؤثت معالم هذا الفعل السحري، وتحترم سر فن القول الشعري، منها فنجان قهوة أو كأس شاي مع موسيقى تسافر بك إلى عمق أعماق الأعماق فينا، وفضاء يليق والقصيدة الشعرية كبيت منعزل بضوء خافت في مكان شاعري، أو تحت إيقاعات المطر والبحر في أوقات اللحظات الشعرية بدون موعد مسبق.
لحظات الشعر في حياتنا لها خصوصياتها الوجدانية، تحضر وتغيب في زحمة اليومي.
أوقات الشعر منفلتة كالبرق بتعبير الشاعر نزار قباني، أن تكون شاعرا فهذا معناه أن تمارس كتابة القصيدة، وهنا تنتهي مهمتك الإبداعية في الكتابة بولادة مولودك الإبداعي وخروجه إلى أرض الوجود، فيصبح بعد التداول ملكا لجميع القراء، فيأتي الناقد لممارسة النقد الأدبي على عملك الإبداعي، وأن تكون شاعرا فأنت ستعشق وتميل إلى قراءة شعر يروقك وشعراء تعجبك كتاباتهم الشعرية قديما وحديثا، ولكتاب السرد .
أسئلة الوجود والموجودات، قضايا الذات والإنسان في هذا الكون. هي عوالم وأسئلة أتمنى طرقها من خلال الكتابة الشعرية.

طيف المعمري / سلطنة عمان
قراءة الشعر هي الفعل الوحيد الذي يجعلني أشعر بأنني أكسب الوقت
لا شيء يشغل تفكيري مثل الشعور الدائم بالخسارة، بوطأة الزمن، أن الوقت يتسرب من بين يدي، حتى هذه اللحظة يستحيل إرجاعها. أظن أن قراءة الشعر هي الفعل الوحيد الذي يجعلني أشعر بأنني أكسب الوقت، وقت الكلمة، أزمنتها الكثيرة، الاحتمالات المفتوحة لما تعنيه وفقًا لسياق النص الشعري الذي وُضعت فيه. ولذلك أعتقد أن علاقتي بالشعر تختلف عن علاقتي ببقية أشكال الأدب، إذ تغدو صلةً حميمية بالنص، بالتجربة المتفردة التي أقرأها وحدي دون أن يشاركني فيها أي قارئ آخر، ولا أخجل أن أقول أن هذا تحديدًا يغذي فيَّ رغبةً أنانية بتملك النص الشعري كما لو أنني أنا من كتبته وسهرت في تنقيحه و وحدي من يفهمه. وإن كانت الحقيقية هي العكس: أنني فُهِمت، ولا أظن أن ثمة شيء في العالم يضاهي شعور بأنك مفهوم.
ألم يقل تيد هيوز بأن الشعر سرّ، وأن الحاجة إلى إخفائه هي ما تجعله شعريًا؟ لعلّي أنطلق من هنا للإجابة عن هذا السؤال، قراءة الشعر تتطلب آذانًا صاغية كما لو أن شخصًا ما يثق بك ليخبرك أهم ما يشغله. لكن لا طقوس مُعينة لدي، والقطيعة مع الشعر لا تحدث إلا نادرًا، فمهما كان الكتاب الذي أقرأ، تُرافقه دومًا مجموعة شعرية.
لم أرغب يومًا في أن أكون شاعرة، وحتى لو امتلكت الأدوات والإمكانات الشعرية، أظنها حرفة تتطلب جدية ومواظبة لا أملكهما. لذلك لا أظن أن لدي تصورًا واضحًا عمّا قد أكون عليه كشاعرة. ربما سأكون متوجسة باليومي، أو سأكتب عمّا لا يعني شيئًا، الجمال المتماسك، الذي كما قال بورخيس، لم يُكتب ليعني شيئًا.