في الإنسان الاقتصادي

لمصطلح الإنسان الاقتصادي (hommo economecus) مكانة مركزية في النقاش الدائر بين مجالي الأخلاق أو (علم الأخلاق) وبين الاقتصاد أو (علم الاقتصاد)، وكذلك فيما يعرف بالاقتصاد المعياري (économie normative) والاقتصاد السلوكي (économie comportementale) وذلك منذ بزوغ الاقتصاد الكلاسيكي والنظرية النفعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر. وإن النظر، على سبيل المثال لا الحصر، في العمل الضخم الذي أنجزه الباحث إلي هلفي(Elie Halevy) وعنوانه: الفلسفة الراديكالية، و جاء في ثلاثة مجلدات ضخمة، والمخصص للعلاقة المتشابكة بين الاقتصاد الليبرالي والنظرية النفعية، يدرك حجم التداخل والأسئلة التي تطرحها العلاقة بين الأخلاق والاقتصاد. فما مضمون هذا المصطلح، وكيف يستعمل في المناقشات الأخلاقية والاقتصادية المعاصرة؟

أصبح مصطلح الإنسان الاقتصادي شائعا بصيغته اللاتينية بعد أن (استعمله) الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل في أعماله الأخيرة، وذلك في نقده لآراء  الاقتصادي ستانلي جيفنز (Stanley Jevons) التي عرضها في كتابه: نظرية الاقتصاد السيَّاسي (1871)، والتي تعد في تاريخ الاقتصاد السياسي بداية لظهور ما يسمى المدرسة الكلاسيكية الجديدة(néoclassique) مقارنة بالمدرسة الكلاسيكية التي يمثلها ميل في كتابه: مبادئ الاقتصاد السيَّاسي(1948).وبحسب ميل، فإنَّ الإنسان الاقتصادي بوصفه كائنا عقلانيا(rationnel) معني بمصلحته أو منفعته الخاصة، لأنَّ: “الاقتصاد لا يهتم إلاَّ بالإنسان المعني برغبته في امتلاك الثروة، وبإمكانه تقدير الفعالية بين الوسائل والأهداف”. ولكن استعماله الحالي سواء في النقاش الدائر حول الليبرالية والليبرالية الجديدة تحديدا، أو في المسائل الأخلاقية أو في جدواه وصلاحيته وحدوده يعود إلى ما قدَّمه الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل فوكو في دروسه الموسومة: مولد السيَّاسة الحيوية، خلال السنة الجامعية 1978-1979 بالكوليج دو فرانس، وخاصة الدروس الثلاثة الأخيرة منها.

لا يقتصر استعمال مصطلح الإنسان الاقتصادي على المجال الاقتصادي البحت والمتمثِّل في الثروة والملكية، وتحقيق المصلحة والمنفعة والرغبة، ولكن امتد تطبيقه ليشمل مجالات كانت قبل النصف الأول من القرن العشرين جزأً من المجال الاجتماعي والثقافي. ومن هذه المجالات التي حلَّلها فوكو الزواج، والأسرة، وتربية الأطفال، والجريمة، وذلك بناء على أعمال الاقتصاديين الألمانيين والأمريكيين الذين يمثِّلون ما أصبح يُعرف بالليبرالية الجديدة، وهو ما يطرح سؤالاً علميًّا وأخلاقيًّا مشروعًا ألاَ وهو: ما مدى مشروعية مثل هذا التطبيق والتعميم على حالات ليست اقتصادية خالصة أو مباشرة، لأنَّه انتقل من مجال علم الاقتصاد إلى مجال السلوك البشري الذي عزَّزته المدرسة السلوكية (behaviorisme) في علم النفس وعلم النفس الاجتماعي؟

يكشف هذا الاستعمال الجديد عن تغيُّر في الأهداف، فلقد استعمله الاقتصاديون والحقوقيون والفلاسفة في القرن التاسع عشر لوضع حد لتدخُّل الحكومة، وفسح المجال أمام الإنسان باسم مبدأ الحرية المتمثِّل في القاعدة المعروفة <<دعه يعمل اتركه يمر>>، ولكنه أصبح منذ النصف الثاني من القرن العشرين وإلى يومنا هذا، يستعمل من قبل أنصار الليبرالية الجديدة، لتطويع سلوك الفرد لمبدأ المصلحة والربح، وإخضاعه، كما يقول فوكو، لمختلف:<< فنون الحكم>> التي شخَّص أساسها الفلسفي وممارساتها التاريخية، ومنها الفلسفة التجريبية الإنجليزية ونظريتها في الذات الإنسانية التي تختلف عن تلك التي كانت سائدة في فلسفة العصور الوسطى.

تتميز هذه الذات بقدرتها على الاختيار الفردي غير القابل للاختزال. يقول ديفيد هيوم، على سبيل المثال لا الحصر: << إذا سألنا أحدهم: لماذا تتدرَّب؟ سيجيب: أتدرب لأنَّني أرغب في الصحة. وسنسأله: لماذا ترغب في الصحة؟ وسيجيب: لأنَّني أفضِّل الصحة على المرض. وفي هذه الحالة سنسأله: لماذا تفضل الصحة على المرض؟ وسيجيب: لأنَّ المرض أمر شاق ومؤلم، ولأنَّني لا أريد أن أصبح مريضًا. وإذا ما سألناه لماذا تعتبر المرض أمرًا شاقًّا ومؤلمًا، في هذه الحالة سيرى أن من حقِّه ألا يجيب، لماذا؟ لأن السؤال بالنسبة له بلا معنى>>. يعني هذا أنَّنا أمام ميلاد الفرد الحديث الذي لا يحتاج إلى تسويغ ميتافيزيقي لاختياراته، ويرى أنَّ من حقِّه أن يقدِّم تفضيلاته ومصالحه ومنافعه ولذَّاته عن غيرها من الاعتبارات مهما كان مصدرها. وللفيلسوف ديفيد هيوم مثال معروف في هذا الشأن وله دلالة عميقة، رغم طابعه الحاد. يقول:<<عندما يُطلب مني أن أختار بين قطع أصبعي (سبابتي) وموت شخص آخر، فإنَّه لا شيء يرغمني أن أعتبر أن الاختيار الأفضل هو قطع سبابتي عن موت شخص آخر!>>. يؤدي هذا القول، وما عرفته المجتمعات الأوربية من تحوُّلات اقتصادية وسيَّاسية في القرن الثامن إلى ما استخلصه فوكو، وعبَّر عنه بمصطلح (الذات النفعية) التي بلورتها النظرية الأخلاقية المعروفة باسم نظرية المنفعة، وأسَّسها جيرمي بنتام وجون ستيوارت ميل وغيرهما، وتقوم على مبدأ: (تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس).

ولكن إذا كانت هذه النظرية النفعية تعبِّر أصدق تعبير عن الإنسان الاقتصادي، فإنَّ ما يجب الإشارة إليه هو أنَّ ثمة اختلافات بين مؤسِّسيها، وخاصة بين بنتام وميل سواء من جهة العلاقة بين المنفعة المادية والروحية، أو من جهة العلاقة بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، ولكن المؤكد أنَّها زوَّدت هذا الإنسان الاقتصادي بمقاربة نظرية وعملية في الوقت نفسه، مكَّنته من تأسيس المجتمع المدني الذي يعمل على وضع حدٍّ لتدخُّل السُّلطة، ويسمح بممارسة الحرية في المجتمع، وهو ما يعني النظر إلى مفهوم الإنسان الاقتصادي بوصفه حدثًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا في الوقت نفسه، ويتفق وما ذهب إليه عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي مارسيل موس (Marcel Mauss)، في كتابه: مقال في العطاء، من أنَّ الإنسان الاقتصادي لا يشكِّل جزأً من ماضينا، وإنما هو منَّا، ومن مستقبلنا، ويطرح علينا أسئلة أخلاقية و سيَّاسية دائمة.

و من بين تلك الأسئلة تلك التي تتعلَّق بمشروعية تعميمه ليشمل مختلف مناحي الحياة الإنسانية، كما أشرت إلى ذلك سابقا، ومنها على وجه التحديد مقاربة عالم الاقتصاد الأمريكي غاري بيكر(Gary Becker) التي عملت على تطبيق المفهوم على كل أصناف السلوك البشري، لأنَّها في نظره، تتضمَّن قرارات صادرة عن عقلانية في الاختيار، ولأنَّها تهدف إلى تحقيق المنفعة، سواء أكانت هذه القرارات مهمة أم قليلة الأهمية، وسواء أكانت متعلِّقة بأشخاص أغنياء أم فقراء، لأنَّها كلها قرارات عقلانية. يقول: <<إنَّ الذين يتزوَّجون، يطمحون إلى رفع مستوى منفعتهم مقارنة بمستواهم عندما كانوا عزَّابًا>>. والأمر نفسه بالنسبة للجريمة. إنَّ المجرم قبل أن يقدم على فعله، فإنَّه يخضع سلوكه لحساب الخسارة والربح. وهذا يعني على حدِّ قول أحد الاقتصاديِّين، وهو كنيث بولدنغ (Kenneth Boulding): <<إنَّ علم الاقتصاد يريد أن يبتلع كل العلوم الإنسانية والاجتماعية>>.

وإذا كان صحيحا أنَّ هذه المقاربة المعممة للاقتصاد هي التي مكَّنت بيكر من الحصول على جائزة نوبل في الاقتصاد، فإنَّ ذلك لم يمنع من نقدها، وبيان (تهافت) جوانب كثيرة منها، وخاصة تلك المتعلِّقة بالاختيار العقلاني للسلوك الاقتصادي الذي يكون مصحوبا بقلة أو انعدام في معرفة مختلف المعطيات والمعلومات التي يُبنى عليها السلوك الاختياري، وخاصة أن البحث عن تلك المعلومات في عصرنا قد أصبح لا يخلو من تكلفة، وهو ما يجعل الإنسان الاقتصادي يراهن على (الحظ). ثم إنَّه إذا كانت المنافع والمصالح ممكنة رياضيا، فان مضمون هذه المنافع أو محتواها يبقى ملتبسا، أو صعب التحديد كميا، أو إذا شئنا أن نعبِّر عن ذلك بدقة، فإنَّه يصعب تحديدها ماليًّا أو نقديا، بما أنَّها تتعلَّق بتلبية حاجة، ورغبة، ومتعة، وبكلمة سعادة!

وهناك وجه آخر لنقد الاختيار العقلاني للإنسان الاقتصادي ويتمثَّل في السؤال المشروع الآتي: هل هذه الاختيارات العقلانية تتحكَّم فيها حسابات عقلانية صرفة أم إنَّها ناتجة عن مؤثِّرات خارجية، ومنها: المحيط العائلي أو المهني أو الاجتماعي، أو تكون خاضعة لمعايير أو اعتبارات أخرى مثل الرغبة، والميل، والاعتقاد، والتربية، وهو ما يعني أن مبدأ الاختيار العقلاني يشوبه التبسيط، والاختزال للسلوك الإنساني وتصرفاته. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا يعني أنَّ مبدأ المنفعة الذي يكوِّن مفهوم الإنسان الاقتصادي يحتاج إلى تعديل يتضمن جملة من الواجبات الخاصة والعامة، وهو ما دعا إليه بعض علماء الاقتصاد المعاصرين إلى ضرورة النظر إلى علم الاقتصاد بوصفه علما أخلاقيًّا، ونقرأه على سبيل المثال لا الحصر عند أمارتيا سن (Amartya Sen) الذي خصَّ هذا الموضوع بكتاب هام، يحتاج إلى وقفة خاصة، لا يسمح بها مجال هذا المقال.