رونيه ديكارت وأُسس فلسفته العقلانيّة (3)

كتب بواسطة محمد كزو

صورة بعدسة الكاب لتمثال “رونيه ديكارت” موجود وسط المنزل الذي وُلد فيه شرق فرنسا

الأساس الثّالث: الكوجيطو أو بداية الشّك

         في هذا المحور نستأنس بالأسئلة على الشّكل التّاليّ: ما الفرق بين الشّكّ والفكر؟ هل هو شكّ منهجيّ أم شكّ مطلق؟ من يسبق أوّلاً؟ لماذا أنا موجود بفكري وليس بجسمي؟ كيف سينبثق الكوجيطو؟ ما هي المسائل المَعْنيّة بالشّكّ؟        

         يُعتبر الكوجيطو، الذي استمدّ تسميته من اللّفظ اللّاتينيّ: Cogito ergo sum، وترجمَته الشّهيرة: أنا أفكّر إذاً فأنا موجود، من بين المبادئ الهامّة في الفكر الدّيكارتيّ عموماً، فهو النّقطة التي كانت أساس المعرفة كلّها فيما بعد، هذا الشّكّ المنهجيّ، وليس المُطلق طبعاً، كان مثابة جانب الضّوء الذي نظر منه ديكارت ليهتدي لأشهَر قولة على الإطلاق، إذ يقول: «ولكن سرعان ما لاحظت أنّه، بينما كنت أريد أن أعتقد أن كلّ شيء باطل، فقد كان حتماً بالضّرورة أن أكون أنا صاحب هذا التّفكير، شيئًا من الأشياء. ولما انتبهت إلى أنّ هذه الحقيقة: أنا أفكّر، إذن فأنا موجود، كانت من الثّبات والوثاقة واليقين بحيث لا يستطيع اللّاأدريون زعزعتها، بكلّ ما في فروضهم من شطط بالغ، حكمتُ أنّي أستطيع مطمئنًّا أن آخذها مبدأ أوّل للفلسفة التي أتحرّاها»(1)، فاستبعد ديكارت أيّ شيء كانت فيه ذرّة شكّ حتّى يتّضح له، بحيث أصبح لا يثق في العالَم الخارجيّ، فهو مليء تماماً بالمعرفة الخاطئة، بل حتّى حواسّه شكَّ فيها بما تنقله من أفكار خاطئة أيضاً منذ زمان، بمعنى آخر أخذ ديكارت في غربلة المعرفة ووزنها في ميزان الشّكّ، يقول: «وأن أرفض كلّ شيء خاطئ على الإطلاق كل ما استطعت أن أتخيّل فيه أدنى شكّ، حتّى أرى ما إذا لم يبق شيء بعد ذلك في اعتقادي، يكون غير قابل بتاتاً للشّكّ فيه»(2).

         وفي الإطار ذاته، يفصل ديكارت بين الفضائل الحقيقيّة والرّديئة، ليؤكّد أن صاحب الفضائل الحقيقيّة «مَن صدقت عزيمته، وثبتت إرادته على أن يستعمل عقله دوما أحسن ما وسعه مِن استعمال، وأن يتوخّى في جميع أفعاله ما يراه أحسن الأشياء، وهو حكيم حقًّا بقدر ما تهيِّئه له طبيعته»(3). بشكل خاصّ، يُقِرُّ أنّ الفضيلة واحدة لا تتجزّأ، فمَن مَلَك فضيلة مَلَك الفضائل كلّها؛ ويربطها بالعِلم مُصرِّحاً أنّهما شيء واحد، كذلك الخطأ والرّذيلة لا يفترقان، وأيضاً الخير لا يفترق عن الحقّ؛ فما يداعب نفوسنا مِن فكر هو شيء في مقدورنا، فالبدء مِن الذّات لا خارجها أساس المعرفة؛ وترتَّب عليه تغيير رغباتنا عِوَض منظومة العالَم.

        وهذا دليل وضوحه، حيث شَرَحَ معنى الفلسفة ثمّ منفعتها، أي الاشتغال بالفلسفة الحقيقيّة كـــ «استعمال المرء عينيه لهداية خطواته، واستمتاعه عن هذا الطّريق بجمال اللّون والضّوء، أفضل بلا ريب مِن أنْ يسير مغمض العينين، وليس له مِن مرشد إلّا نفسه»(4)؛ ثمّ إصلاح الأخلاق، وهداية السّلوك فــ«الحكمة هي القوت الصّحيح للعقول»(5)، عكس البهائم، التي تبحث عنه لحفظ أجسامها فقط.

         وبشكل عامّ، يَشترط ديكارت في كلِّ مبدأ جديد، يتمّ اقتراحه بدَل فلسفة أرسطو، أوّلًا الوضوح، وثانياً القدرة على استنباط أفكار وحقائق جديدة منه؛ فكان [الكوجيطو]، أوّل مبدأ واضح ضِمن فلسفته، ومنه استنبط المبادئ الأخرى: وجود الله، وأنّه خالِق العالَم ومنبع الحقيقة، ناهيك عن خَلْقِهِ الفكر الإنسانيّ بفطرة تجعله يُصيب الحُكم على أشياء تصوّرها بوضوح تامّ، وبهذا ينتقد الشّكّ المطلق، «ولا يستثنى منها إلّا وجود الله، إذ وَضَعه بعضهم موضع الشّكّ، بسبب إسرافهم في الاعتداد بمدركات الحواسّ، وأنّهم لا يستطيعون أن يروا الله بأبصارهم ولا أن يلمسوه بأيديهم»(6).

         لذلك، وللبحث عن الحقيقة يجب البدء بالشّكّ في الأشياء جميعها، حتّى التي تقبل أقلّ شكّ تُرفض؛ فأبعَده ديكارت عن الحياة العَمليّة، وقيَّده بمسائل الفكر والنّظر، فيلزم الشّكّ في الأشياء الحسّية للتّفريق بين حال اليقظة والنّوم، وكذلك الشّكّ في براهين الرّياضيات لأنّ النّاس أخطؤوا وهم يُفكِّرون فيها.

         عموماً، لِنَقِيَ أنفسنا الضّلال –حسب ديكارت-، لابدّ أن نُمارس الشّكّ بحرّية، فقدرتنا إيقاف الوهم والإمساك عن الحُكم، أكبر دليل عمَّا أودعه الله فينا مِن حرّية، وقدرة الشّكّ تعني أنّك موجود، فحتّى لو أسقطنا الأشياء كلّها حولنا: أرض، سماء، جسم… فنبقى نُفكر باستمرار، ما يعني [أنا أفكر إذاً أنا موجود]؛ فالنّفس جوهر متميّز عن البدن ونوجد بها، والجسم جسمٌ مِن الأجسام، فإذاً، يمكن الشّكّ في الأجسام كلّها عدا الفكر، فهو بمنأى ذلك؛ إذ ندرك الفكر داخِلَنا مباشرة، ويضم الإحساس أيضاً، فأنا موجود بالفكرة الحسّية «لأنّي حين أقول: أنا أرى وأمشي، وإذن فأنا موجود، وحين أقصد مِن الكلام على الرؤية أو المشي عمل عيني أو ساقي، لا يكون استنتاجي استنتاجاً يقينيًّا ينتفي معه كلّ شكّ: فقد أظن أنّي أرى وأمشي دون أن أفتح عيني أو أبرح مكاني، كما يحدث لي أحياناً وأنا نائم، بل ربّما يقع لي هذا الظّنّ نفسه، لو لم يكن لي جسم على الإطلاق، ولكن حين أريد أن أتحدث فقط عن عمل فكريّ أو وجدانيّ، أي عن المعرفة التي أجدها في نفسي، والتي تُخيّل لي أنّي أرى وأمشي، تكون هذه النّتيجة صحيحة لا أستطيع أن أشكّ فيها، لأنّها ترجع إلى النّفس، التي لها وحدها ملكة الوعي أو التّفكير»(7).

         وأخيراً كما يظهر من الكوجيطو، أو الأحرى من صياغته، لفظ “الأنا” المتكرّر [أنا أشكّ، أنا أفكّر، أنا موجود]، الذي من خلاله حاول ديكارت أن يوصل رسالته للكنيسة، مفادها أنّ الإنسان كلّه له حقّ التّفكير واستعمال [أناه]، بحيث نزَع سلطان المعرفة من رجال الدّين والكتاب المقدّس، ولم يعد حكراً لهم، بل أعطاه للفطرة الإنسانيّة المتضمّنة وحدها فكرة الله أصلًا، فيقول عن معرفة الله الفردانيّة هاته: «إن الذي أعتمد عليه يملك في ذاته كل هذه الأشياء العظيمة التي أشتاق إليها، والتي أجد في نفسي أفكارا عنها، وأنه يملكها(…)، في الواقع وبالفعل وإلى غير نهاية، ومن ثم أعرف أنه هو الله»(8).

الإحالات والهوامش

(1) مقال عن المنهج، رونيه ديكارت، ترجمة محمد محمود الخضيري، مراجعة وتقديم محمد مصطفى حلمي، دار الكتاب العربي القاهرة، ط2/1968م، ص: 149.

(2) حديث الطريقة، رونيه ديكارت، ترجمة عمر الشارني، دار المعرفة للنشر 1987م، تونس، ص: 112-113.

(3) مبادئ الفلسفة، رونيه ديكارت، ترجمة وتقديم وتعليق عثمان أمين، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، سلسلة النصوص الفلسفية (6)، ص: 26.

(4) المرجع نفسه، ص: 33.

(5) المرجع نفسه، والصفحة.

(6) المرجع نفسه، ص: 39.

(7) المرجع نفسه، ص: 56-57.

(8) تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، رونيه ديكارت، ترجمة وتقديم وتعليق عثمان أمين، تصدير مصطفى لبيب، المركز القومي للترجمة، العدد 1297، ط1/2009م، ص:153-154.

الثالث عشر بعد المائة فلسفة

عن الكاتب

محمد كزو