حوار مع الناقد المغربي د. سعيد يقطين (2-2)

  • “الروائية” أهم بغض النظر عن كون الرواية حداثية أو تقليدية.
  • لم استعمل في كل أعمالي هذا المصطلح الحداثي لأنه ملتبس وغير واضح

   في الحلقة الماضية من حوار “الفلق” مع الناقد المغربي المرموق د. سعيد يقطين، توقفنا عند تطور الرواية العربية وأهم السمات التي ميزت الرواية الجديدة وما تحمله من مغامرة روائية وتفكيك للزمن، والرواية التقليدية عند كتاب أمريكا اللاتينية وبعض الكتاب العرب، إلى غيرها من القضايا. نناقش في هذه الحلقة تعدد الرواة في الرواية العربية، وسمة “الروائية”، وأثر تيارات النقد الحديثة على النقد العربي، وإشكالية المصطلح النقدي.

https://www.alfalq.com/?p=25240

* استطاعت الرواية العربية الحديثة أن تقدم أكثر من راوٍ في العمل الواحد. كيف ترى إلى توظيف الراوي وتعدد الرواه في الرواية العربية بهدف تقديم نوع من التعدد داخل العمل، وما رأيك في هذا النمط من الكتابة الروائية؟

 – تناولت تجارب كثيرة جدا في هذا الصدد، هناك الروايات التقليدية التي استعملت الراوي الواحد الذي يهيمن على النص، وهناك شخصيات تقوم بدور الرواه في العمل الواحد، وهناك تجليات أخرى كثيرة لتوظيف هذا الصوت السردي بلغاتها الروائية وتقنياتها المتعددة. والرواية العربية من هذه الناحية اعتنت اعتناء مهما وجعلتنا أمام أعمال تتعدد القنوات فيها ونتلقى الأحداث والمادة الروائية من خلالها. هذه الأعمال جاءت لكي تبين نمطا من الكتابة يتجاوز النمط التقليدي الذي يتخذ فيه الكاتب من الراوي صوتا أو ذاتا ثانية له لتقديم المادة الحكائية، وهذا المظهر بما يعكس من تعدد على صعيد الرواة؛ يجعل إيجابيته تكمن في أنه يجعل القارئ يتلقى الرواية من خلال منظورات وتصورات متعددة، دون أن يكون فيها صوت ما موجها للدلالة لديه أو موجها المعنى النهائي الذي تسعى الرواية لتجسيده. وهذا يعطي إمكانيات مهمة للقراءة المنفتحة والقراءة التي تدفع القارئ إلى أن يعيد القراءة ليكتشف من خلال هؤلاء الرواة المتعددين إمكانيات جديدة للتعرف على خصوصيات الرواية. 

* تباينت الكتابات الروائية الجديدة بين التقليدية، والتجريبية، والحديثة. هل تصب كل هذه الأشكال بحكم المدة التي أنتجت فيها تحت مصطلح الحداثة الروائية؟ أم نصنفها من خلال ما تطرحه على الصعيد الفني؟

 – أنا شخصيا لم استعمل قط -في كل أعمالي- هذا المصطلح الحداثي، لأنه ملتبس وغير واضح وعندما استعمل مصطلحات دقيقة أتساءل هل في هذه الرواية بعدا روائيا متميزا أم لا؟ هذه الروائية يمكن أن تتحقق داخليا لشكل معين كالشكل التجريبي مثلا وممكن أن تتأتى من خلال ممارسة الشكل التقليدي كالمثال الذي ضربناه عن بعض كتاب أمريكا اللاتينية، أو من روائيينا العرب، ولكن تجد لهم خصوصية فنية. وإذا كنا نستخدم مصطلح الحداثة، فيمكن أن ندرج كتابات هؤلاء ضمن هذا الاتجاه الذي يسعى إلى تقديم كتابة جديدة وكتابة مغايرة للنمط التقليدي الذي تحقق في حقبة سابقة. وفي هذا الاتجاه يمكن أن أضرب أمثلة عدة منها كتابات أدوار الخراط بما فيها من حضور لمختلف المظاهر التجديدية في الرواية نسبة إلى ما أقرأها وأتفاعل معها وفق هذا المنظور والتي سنجدها لدى العديد من الروائيين العرب، ويمكن أن أقارن هذه التجربة من حيث قيمتها الفنية، وقيمتها الروائية بما أقرأه عند روائي مثل محمد البساطي، أو بهاء طاهر، أو خيري شلبي، أو إبراهيم عبد المجيد، وغيرهم، وذلك على الرغم من أنهم لا يسيرون وفق نمط واحد أو على طريقة واحدة.

 ولعل واحدة من أهم مظاهر هذا التطور الذي عرفته الرواية العربية الجديدة هو أنها اختطّت لنفسها أنماطا متعددة من التجديد ومن التجريب. ما يهمني عند النظر إلى الأعمال الروائية هو النكهة الخاصة التي يمكن أن تجدها عند الروائي الكاتب الذي تعرفه من رواياته.

* هل ثمة أشكال روائية معينة تسترعي اهتمامك دون أخرى، خاصة تلك التي تقدم طرحا مختلفا عبر توظيف مغاير للغة والتقنية، وغيرها؟

 – لا يمكن أن أنتهي إلى صورة قاطعة ونهائية وإلا فإن هذا سيدفعني إلى نوع معين من الروايات دون قراءة نوع آخر، لذلك فمسألة توظيف التقنية وممارسة لغة روائية يبدو أنه لا يمكن أن نحكم عليها في إطار عام لشكلياتها، ولكن انطلاقا من خصوصية الكاتب ومن لغته ومن حسه المرهف في التعامل مع العوالم التي يقدمها. ولذلك فأنا يمكن أن أجد في التجربة الجديدة التي فيها تعدد للرواة، وفيها تعدد للأزمنة بعضًا من ضالتي ولكن عندما لا تتوافر الجمالية الخاصة فإنني لا أقربها ولا أعترف بها وبالمقابل يمكن أن أتبين في الروايات الأخرى ذات الطابع التقليدي أو المظهر الخارجي العادي خصوصية تغريني بمواصلة القراءة والتعرف على خصوصيتها. حتى وإن كان أحيانا الراوي الذي يتكلف بها راوٍ واحد له كل مواصفات ما نسميه بالراوي التقليدي. بمعنى آخر، إن خصوصية التجربة لا يكفي فيها الانتماء إلى إتجاه من الاتجاهات الروائية وإنما خصوصيات الكاتب وإبداعيته الخاصة في العالم الذي يخلقه والطريقة التي يقدمه بها.

البحث عن “الروائية”

*من الكاتب الذي تؤثرك رواياته أو بمعنى آخر من الكاتب الذي تتحقق في أعماله هذه الإبداعية الخاصة؟

  • لا يمكن أن أتحدث عن رواية في عجالة، ألخص هذه المسألة في أن لكل كاتب -وهو الذي يهمني عند الروائي- النكهة الخاصة التي تميز الكاتب، والكاتب الذي لا تأخذني روايته ولا تفرض علي أن استمر في القراءة حتى النهاية من جهة، والرواية التي لا تدفعني إلى التأمل والبحث من جهة أخرى، لا يمكن أن أعدّها رواية حتى وإن كانت تخضع للمواصفات التي أتحدث عنها، فكثير من الروايات التي تقرأها القراءة الأولى ونحكم عليها ونصادرها، إذا ما أتيحت لنا فرصة إعادة قراءتها بعيدًا عن الأفكار التي تكونت لدينا في تصورنا والقراءة الثانية يمكن أن نجد فيها ما لم نجده في القراءة الأولى أو يتأكد لنا ما وجدناه في القراءة الأولى. من هذا المنظور فإن السمة التي أبحث عنها هي ما أسميها “الروائية”، هذه الروائية أراها متعالية على الزمان وعلى المكان، وهذا البعد الإبداعي يمكن أن أجده في النص التقليدي، وأنا هنا أطور ما قلته سابقا ولا أناقضه، ويمكن أن أجده في النص الجديد بالمواصفات الجديدة.

  الآن حينما أقرأ الإلياذة لهوميروس وأقرأ سيرة مثل سيرة حمزة البهلوان، أو سيف بن ذي يزن، أجد فيها نصًّا إبداعيا بالمواصفات الجديدة، وعند قراءة الرواية العربية الجديدة سواء في المغرب العربي أو المشرق العربي أجد أن هذه الروايات التي تتحدث حولها عن الراوي التقليدي وعن البناء الزمني التسلسلي التتابعي نجد أن لها إبداعيتها الخاصة ولها جمالياتها الخاصة.

   إن ما يحدد إبداعية الرواية ليس الانتماء إلى تيار ما من التيارات ولكن ما يتحقق فيها من إبداعية خاصة لكاتبها أو الراوي الذي يضطلع فيها بعمليات الحكي. وقد تراجعت في دراستي عن السير الشعبية عن كل المصادرات التي كنا نقولها سابقًا عن الرواية التقليدية، فالذين قالوا الشعر الجديد أو الشعر الحر فإنهم استعملوا مصطلحا تجاريا أكثر مما هو مصطلح شعري، والذين يقولون الرواية الجديدة كانوا يضعون هذا المصطلح مقابل الرواية القديمة ولكن الآن عندما أعود بالأدوات التي تشكلت لدي من نقد جديد وأقرأ هذه النصوص قديمها وحديثها، يمكن أن أجد هذه “الروائية” تتحقق في النصوص القديمة كما يمكن أن أجدها تتحقق في النصوص الجديدة. وأقصد بالرواية التقليدية كل رواية ظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر أو بعد ذلك في الرواية العربية التي ظهرت بداياتها في الخمسينات. 

* يلاحظ أن أغلب اهتمامك النقدي ينصب على السرد وخاصة الرواية، ولا تعتني بالشعر. ما الذي دفعك إلى ذلك؟ 

– المسألة اختيار عن قصد، عن تصوّر للعمل كما أفهمه وكما أتصوره، عندما بدأت أمارس كتابة النقد اشتغلت مده بنقد الشعر، كما عنيت بالاتجاهات النقدية وكتابة بعض الآراء حولها، ولكن عندما بدأت الاهتمام بالرواية ظهر لي أنه لكي يكون الناقد حقيقي في عصرنا الراهن لابد أن يتخصص في مجال معين، ومن هنا جاء اهتمامي الخاص بالرواية وتكريس أعمالي بالنقد الروائي. 

إشكاليات النموذج الغربي

* سيطر المنجز الغربي إبداعًا ونقدًا على النتاجات العربية الجديدة، ويرى البعض أن المثقفين العرب ارتموا في أحضان النقد الغربي بدلا من الاختلاف معه وطرح رؤى مغايرة. كيف ترى هذه الإشكالية؟

– أرى أن الاطلاع على المنجز الغربي في الإبداع وفي مختلف العلوم الإنسانية ضرورة، ولا يمكن التصور بأن الروائي العربي يمكن أن يكتب رواية دون أن يطلع على إنجاز الروائي الغربي أو الإنجاز الروائي غير العربي. كذلك لا يمكن أن يتطور نقدنا سواء في مجال الشعر أو النثر ما لم يتم استلهام وتحقيق الاستفادة من التيارات النقدية المتطورة. هذه المسألة أعدّها ضرورة وأي مبدع لابد أن ينفتح على التجارب الأخرى للتعرف عليها، صحيح قد تقول أن الكاتب يمكن أن يكتفي بالوقائع التي ينتمي إليها في حياته وتجربته ولكن هذه الثقافة تعتبر أساسًا مهمًا. 

* ما زالت مشكلة المصطلح النقدي تثير إشكاليات عديدة بسبب اختلاف توظيفه من بلد إلى بلد، بل من ناقد إلى ناقد في الوطن العربي. كيف يمكن تجاوز هذه الإشكالية، وهل يشكل ذلك خطرًا على الثقافة العربية؟ ومتى يتم تعريب المصطلح النقدي وتوحيده في الوطن العربي؟ 

– مشكلة المصطلح النقدي هي واحدة من أهم المشكلات التي تعترضنا لسبب بسيط هو أننا لا ننتج هذه المصطلحات بل نتلقاها فقط، ومشكلة أخرى ان هذه المصطلحات حتى في الغرب ليست موحدة، فأي مصطلح من هذه المصطلحات عندما ننظر إليه في الأدبيات الغربية النقدية نجد أن كل ناقد يستخدمها بطريقته الخاصة بحسب انتمائه وبحسب الإطار النظري الذي يشتغل به، والمؤسف أنه عندما نتعامل مع المصطلحات نتعامل معها كونها لغة أجنبية يكفي أن نعرفها لنكون قد حللنا هذه المشكلة، وبذلك نقع في مشكلة حقيقية، وهو أن المصطلح له إطار نظري وله خلفيته الخاصة، وهذه المعرفة بالمصطلح وبطريقة تشكله وتطوره أساسية لكي نستطيع اقتراح المصطلح المناسب الذي يراعي خصوصية نطاق الإطار النظري الذي نريد نحن أن نضعه فيه. 

   والحقيقة أن الكل يشعر أن هناك مشكلة حقيقية ولكن الآن بعد الوعي بها يمكن أن نخطو خطوات عملية وحقيقية بدون نرجسية كاذبة وبدون وهم خادع. نفهمه أولا في أصوله وأن نستوعبه جيدا ثم نضع له المقابل. وهذا المقابل قد يكون ترجمة أو توليد أو غير ذلك من الإمكانات التي يمكن أن تجعلنا نصطلح على مفهوم ونوظفه لكي نرى فيه أداة للوصول إلى نتيجة من النتائج.

أدب العدد الأخير العدد السادس والعشرين بعد المائة حوارات

عن الكاتب

طارق إبراهيم حسان