“التطبيع”…القصة كاملة 2/3

كتب بواسطة نبال خماش

  شرحت مادة الحلقة السابقة باختصار المعنى الأكثر شيوعا لمصطلح “التطبيع”، كونه “تغيير ظاهرة ما، بحيث تتفق في بنيتها وشكلها واتجاهها مع ما يعده البعض طبيعيا”. وفي معرض التناول التحليلي للمعنى الدارج، ومدى مطابقته مع المتطلبات الأساسية والاشتراطات الموضوعية التي من المفترض أن تكون متوفرة في عملية التغيير وأثناءها وما بعدها، حتى يصبح بالإمكان أن يطلق على هذا المسار، “تطبيعا”؛ تبين أن هناك حالة من عدم الانسجام بين المعنى والحالة المعرّفة، وأن هناك إسقاطا متعمدا لمعنى تؤكد الشواهد التاريخية والمعاصرة كافة، عدم مطابقته للموصوف أو الظاهرة التي يراد التعريف بها. وفي حال حظي هذا النقد باهتمام، فإن المحفزات الذهنية تبدأ بالتساؤل والبحث عن المعنى البديل الذي يفترض أن يكون في وضع أكثر توافقا وانسجاما مع الحالة بعموميتها. فمقتضيات البحث العلمي تستدعي إغلاق الثغرات التي تشكلت أو برزت، وإعادة بناء الجزء أو الأجزاء التي هُدمت، ليغدو البناء بمجمله أكثر انسجاما. وهذا الذي ستحاول مادة هذه الحلقة، في مقدمتها، معالجته. 

   رغم أوجه الاختلاف والتباين التي تجتاح مجتمعات المنطقة العربية بكل مستوياتها، إلا أن نقطة محددة، وفكرة بذاتها، هي محل إجماع وتوافق، بحيث لا يكاد أحد أن يعترض عليها. فهناك إجماع أن الذي تشهده المنطقة العربية هو في حقيقة الأمر إعادة صياغتها وتشكيلها على هيئة جديدة. وأن هذه العملية لن تغادر عنصرا سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا أو اقتصاديا، إلا وأحدثت فيه تغييرا وتبدلا على نحو من الأنحاء؛ وأن إعادة التشكيل هذه تجري تحت مظلة ما يعرف بـ “تطبيع” عدد لا بأس به من الدول العربية مع الكيان الصهيوني. نقطة إضافية توشك أن تكون محل توافق، وهي أن الحكومات العربية، وشرائح اجتماعية لا يستهان بها، وفي سياق تبريرها لإقبالها المهرول نحو بناء علاقة مع الصهاينة، وفي غمرة هذه الحماسة الانفعالية، يسهل على أي متابع أو مدقق في المشهد العام أن يلمس الحالة المثقلة بأحاسيس ومشاعر “الدونية” تجاه الطرف الصهيوني/اليهودي؛ فلا ينظرون إليه إلا كونه كيانا متفوقا، ليس على المستوى التقني والسياسي والاقتصادي فحسب، وإنما تتسع دائرة الانبهار والإحساس بالضآلة، وهنا عصر الخطر الحقيقي،  من خلال النظر إلى الكيان الصهيوني كونه مصدر إلهام للقيم والأخلاق والثقافة الإنسانية الراقية، وهؤلاء الذي يغمرهم هذا الشعور، يطالبون بتلقف كل ما يرشح من هذا الكيان، حتى وإن كان دينا جديدا أو قيما ومنظومة خلقية، لا هدف لها إلا خلخلة البنى الاجتماعية والقيم الثقافية وتدميرها، والاكتفاء بهذا الانجاز التخريبي كونه غاية نهضة المجتمعات العربية وغايتها الختامية، دون الذهاب بالمجتمعات العربية إلى مجال نهضوي حقيقي.

   إن الذي يحدث هو أقرب ما يكون بموجة “تهويد” جديدة. وضمن تحليل ذاتي لهذه المسألة، يمكن القول إن التاريخ تعرض في السابق لموجتين ضخمتين من موجات التهويد، الأولى هدفها الدين الإسلامي، أما الثانية فكان هدفها المسيحية، ولا يمكن أن يعد شكلا من أشكال المبالغة إذا قلنا إن كلتا الموجتين حققتا الكثير من أغراضها.

   في الموجة الأولى، وفي وقت مبكر من التاريخ الإسلامي، استطاع عدد من اليهود الذين أعلنوا إسلامهم، أن يحدثوا في أصول هذا الدين وعقائده شيئا كثيرا، حتى بات هذا الذي أُحدث بمثابة مكون أصيل من مكونات الإسلام. وأخذت ظاهرة “الإسرائيليات” بالتمدد والانتشار على نحو يفوق الوصف، والحديث عن التمدد هنا بمعناه الزمكاني الواسع. وقد أثارت هذه المسألة اهتمام عالم الاجتماع العربي، ابن خلدون، الذي برر هذا الحضور القوي للرواية الإسرائيلية في الدين الإسلامي كونه أن غلبة البداوة والأمّية على العرب، عنصران أساسيان لسهولة تسلل الإرث اليهودي كونه جزءا دينيا أصيلا.

 وعلى المستوى التأثير بالمسيحية، فهناك ما يعرف بـ “تهويد المسيحية”، وهي حالة أخذت تتشكل فترة “الإصلاح الديني” بأوروبا الوسطى، وكان من أهم تجليات هذا التأثير ظهور “المسيحية البروتستانتية”.  والذي نشهده اليوم هو في واقع الأمر موجة ثالثة من موجات “التهويد”، يتوافق الجميع على توصيفها خطأ بـ “التطبيع” فيما يمكن أن نعدّ مصطلح “تهويد” هو الأقرب لواقع العلاقة العربية مع الكيان الصهيوني، وواحدة من الفوارق الجوهرية بين هذه الحملة التهويدية المعاصرة وسابقاتها، هذا الحضور للبعد السيكولوجي الموجه للمجتمعات العربية على نحو يفوق بكثير من استهدافه الحكومات والأنظمة، كون هذه المجتمعات مدانة ومطالبة بالاعتذار للصهاينة/اليهود لموقفها التاريخي وكراهيتها غير المبررة وغير المحقة لليهود نتيجة سوء فهم وتقدير. إن “الاعتذارية”، هي إحدى المطالب الأساسية التي ستأخذ في الظهور بعد فترة وجيزة، ومهما بالغ “المتهودون” في اعتذارياتهم وأسفهم على ما بدر منهم وما لم يبدر، فإنهم لن يبلغوا مستوى إرضاء الصهاينة، وتبقى هذه التجمعات العربية، أو الكتل المتهودة، تسعى وراء وهم، تماما كما هو حال المجتمعات الأوروبية المدانة بأكملها بنظر اليهودية لجرائم أعدت ونفذت بحق اليهود، ولكن بتخطيط وإعداد صهيوني دقيق.    

   إن سمة التفكير المراوغ واحدة من أهم عناصر العقل الصهيوني على الإطلاق، ولعل البشرية في تاريخها الممتد، لم تشهد وجود جماعة دينية أو سياسية تتمتع بهذه القدرة على المراوغة كما هو حال الفكر الصهيوني. فكر اكتسب قدرة فائقة على التحايل وإحداث فجوات هائلة بين المقدمة والنتيجة، بين الضحية والجاني، بين المناضل والإرهابي، إضافة إلى قدرته على التحريف والتزوير، وتلاعب بالأصول الثقافية والهوياتية والاجتماعية على النحو الذي يلبي حاجات المشروع الصهيوني وغاياته، وتاريخنا المعاصر يزخر بأمثلة لا حصر لها في هذا المجال.

   من بين هذه الأمثلة التي يمكن الاستدلال عليها في سياق بحثنا هذا، أننا نجد شخصيتين بالغتا الأهمية في تاريخ الصهيونية، هما حاييم وايزمن، الذي يعد من أبرز شخصيات المنظمة الصهيونية بعد مؤسسها هرتزل؛ وبن غوريون، أول رئيس للكيان الصهيوني، وقد دون كل منهما في مذكراته مدى تأثرهما بكلمات ونصائح مؤسس الصهيونية العالمية، ثيودور هرتزل “1860-1904″ والتي من بينها فقرة حدد من خلال كلماتها القليلة معالم الأسلوب الأمثل لتعامل الصهاينة اليهود مع الزعامات العربية على وجه الخصوص. وهي مقولة أطلقها هرتزل حتى من قبل أن تبدأ أنظمة وكيانات عربية بالتشكل، ولعقود طويلة. يقول بهذا الشأن:” لكي نأخذ فلسطين، علينا أن نقنع كل الطامعين فيها وفيما حولها من بلاد العرب أننا سنعمل لحسابهم”.

   والعنصر الأهم في معادلة العمل الصهيوني/اليهودي لحساب “الطامعين” بفلسطين هو ترسيخ وتعزيز حالة من الوهم السياسي في ذهن ونفس الزعيم أو الحاكم العربي. إنه من الناحية العملية المفتاح السحري الذي حدد مسار العلاقة مع السياسيين العرب والكيانات العربية منذ قرابة عشرة عقود، فكانت البداية من خلال لقاءات أجراها الأمير فيصل بن الحسين مع حاييم وايزمن في عام 1919، قدم الأمير فيها تنازلات مهمة لصالح الصهيونية العالمية على حساب القضية الفلسطينية، بأمل أن يحظى بدعم الصهيونية العالمية كي يستمر في حكمه لسوريا. ثم تكررت مثل هذه اللقاءات بين شخصيات سياسية وزعامات صهيونية، وكانت الشخصية الأكثر اهتماما بهذا الجانب شقيق الأمير فيصل، الأمير عبد الله بن الحسين، الذي وفد على الأردن عابرا لطريقه ثم أصبح حاكما للبلاد على النحو الذي ذُكر في الحلقة السابقة. وكان تركيز الأحاديث في لقاءات عبدالله مع زعماء الصهيونية، منصبا على ذات القضايا والمواضيع التي يجري التباحث حولها هذه الأيام، حديث متواصل لا انقطاع له عن إرساء السلام وتطوير اقتصاد البلاد وتعاون المكونات السكانية كافة بهدف إحداث نهضة حقيقية على مستوى الإقليم الأوسطي.

وفي هذه اللقاءات كانت محددات العلاقة شديدة الوضوح، أنظمة عربية حديثة النشأة، تبحث عن دعم دول العالم الغربي لكي تضمن هذه الأنظمة لنفسها الاستقرار والاستمرارية في الحكم أطول فترة ممكنة. وأثناء عملية البحث هذه، تأكد للطامحين والطامعين في الحكم، أن الحركة الصهيونية حديثة النشأة، هي صاحبة تأثير في السياسة الغربية، وبالتالي كان هذا الحرص على استرضائها والتودد إليها. بالمقابل كانت المنظمة الصهيونية أكثر ما يعنيها تأكيد الوجود اليهودي في فلسطين وشرقي الأردن، والسعي إلى الاندماج بالمنظومة العربية وبصفتها القومية، والتعامل مع الوجود اليهودي كونه أحد المتممات الفسيفسائية للمكون السكاني في المشرق العربي والجزيرة العربية.

وبالفعل، فقد رأينا في الحلقة السابقة حجم الفائدة التي جناها الصهاينة نتيجة أحلام الأمير عبدالله بن الحسين الأول، الذي لم يكن كيانا بمستوى شرقي الأردن يلبي طموحه، وكان نظره دائما متجها نحو فلسطين ليدمجها ضمن سلطته. ولتحقيق حلمه هذا، أخذ في التواصل وإقامة العلاقات المباشرة مع المنظمة الصهيونية، وتقديم كل أوجه التسهيلات والدعم لأي نشاط اقتصادي داخل الأردن، على أمل أن تكون هذه الغوايات الاقتصادية سببا كافيا لكي يدب الحماس في النفس اليهودية، فيسارعوا في بذل تأثيرهم ووسائلهم الخاصة لدى الحكومة البريطانية لتحقيق حلم الأمير الهاشمي. 

   المهم أنه في سبيل تحقيق حلمه كان مضطرا إلى توريط عدد من القيادات والزعامات الاجتماعية في شرقي الأردن ويدمجهم في مساره “التطبيعي”، حتى يظهر للصهاينة مدى تأثيره داخل المجتمع المحلي، وأنه ليس معزولا عن هذا النسيج. وبالفعل فقد شهد الأردن وفي وقت مبكر من نشأته ككيان سياسي مستقل، انفتاحا على النشاط الصهيوني على نحو تدريجي. وذهب الأمير في هذا الإطار، لدرجة أنه أقنع عدد من رؤساء العشائر المحلية تأسيس أحزاب سياسية يتضمن قانونها الأساسي إقامة علاقة طبيعية مع اليهود في فلسطين، وتأسس لهذه الغاية كل من “حزب التضامن” و ” حزب الشعب” ودعا مؤسسو هذين الحزبين وعلى نحو واضح إلى استيطان صهيوني في شرقي الأردن. إلا أن كلا الحزبين لم يعمرا طويلا، فالأردنيون شرائحهم الاجتماعية وأطيافهم السياسية كافة، اتخذوا موقفا معارضا لأي مظهر من مظاهر التطبيع مع الصهاينة أو حتى اليهود.

   إلا أن حلم توطين الصهاينة في شرقي الأردن من خلال مشاريع اقتصادية، بقي مسعى لم يتمكن الأمير عبدالله من تحقيقه. ورغم نجاحه في تمرير عدد من المشاريع الاقتصادية في بداية حكمه لصالح الصهاينة، إلا أن قدرته في هذا المجال أخذت تتراجع أمام معارضة القوى السياسية الأردنية. ورغم المعارضة التي كانت عقبة حقيقية بوجه مساعيه، إلا أن كان مثابرا وصاحب تصميم في هذه المسألة تحديدا، ولعل آخر المشاريع التي سعى إلى تمريرها، ذلك المشروع الاقتصادي الذي يعود إلى منتصف الأربعينيات من القرن العشرين، فأخذ بالضغط على رئيس حكومته، إبراهيم هاشم، لكي تمنح الحكومة الشركة الصهيونية “شركة لوهمبورغ” امتياز التنقيب عن المعادن والمواد الخام في الأردن. وتقدمت الشركة للحصول على الامتياز تحت اسم “شركة الأردن للتنقيب المحدودة”. إلا أن أنباء هذه الاتفاقية جرى تسريبها في وقت مبكر، فثارت ضجة كبرى في البلاد، ومارست المعارضة السياسية ضغوطا كبيرة على الحكومة حتى اضطرتها في النهاية إلى إلغاء الامتياز، ونشر قرار الإلغاء في الجريدة الرسمية.

   اللافت، أنه كلما مضت حركة التاريخ في تصاعدها، وترسخت الصفة الاستعمارية لدول الإقليم بشكل أكبر، كلما أخذت الأنظار تتجه تلقائيا نحو فلسطين، لكسب تأييد ودعم الوكالة الصهيونية لهذه الأنظمة. حتى مشاريع القومية العربية الأولى، كانت حريصة على استرضاء اليهود من خلال دمجهم في الكيان العربي، ويعد أحد أجزائه وأركانه الأساسية.

   في تلك المرحلة، حيث ما زلنا في أربعينيات القرن الماضي، شهدت منطقة المشرق العربي مشروعين بارزين، هما مشروع “الهلال الخصيب” ومشروع “سوريا الكبرى”؛ وكلاهما جاء تلبية لأحلام الأسرة الهاشمية الحاكمة بفرعيها، العراقي والأردني. وتضمن كل مشروع بنودا خاصة في معالجة الوجود الإحلالي للصهيونية في المنطقة، غايتها إضفاء صفة الشرعية على هذا الوجود، وتمكين الصهيونية وادماج اليهود في المجتمعات المحلية كمكون سكاني رئيسي في المنطقة، حتى باتت هذه المشاريع بنظر الوكالة الصهيونية أشبه ما تكون ببازار سياسي. 

   تقدمت حكومة الملك فيصل الثاني في العراق بمشروع “الهلال الخصيب”، والذي أعلن عنه في عام 1942 من خلال “الكتاب الأزرق”، والذي يدعو إلى نشأة وحدة إقليمية تشمل: العراق، سورية، لبنان، الأردن، وفلسطين، وأكد المشروع على حق اليهود في استقلال كيانهم داخليا، إضافة إلى إزالة المعيقات كافة في التعامل مع هذا الكيان المستقل عبر إقامة علاقات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية مع محيطه المشرقي. وبذلك تكون هذه الوثيقة، هي الوثيقة الرسمية الأولى التي تضفي صفة “شرعية” للتواجد اليهودي في فلسطين من قبل مؤسسة عربية.

   وبالطبع فإن هذا الطرح أزعج الهاشميين في الأردن، ورأى الأمير عبد الله فيه مظهرا يهدد أحلامه وطموحاته الشخصية في المنطقة، فبادرت حكومته إلى الإعلان عن مشروع “سوريا الكبرى” ويضم كلا من: سورية، الأردن، لبنان، وفلسطين، وبالإضافة إلى المزايا التي أعطاها ابن عمه، الملك فيصل الثاني للكيان الصهيوني، وهب الأمير عبدالله قادة الحركة الصهيونية موافقته على توسيع نطاق الحكم الذاتي لليهود في فلسطين، وإمكانية الاستيطان في أماكن أوسع، مع تأكيد أفضلية الاستثمار والتعاون بين الجانبين، وهو مجال بات الأمير عبدالله صاحب خبرة وتجربة ممتدة فيه.

   هذا التنافس في خدمة الحركة الصهيونية لصالح أهداف وطموحات عائلية عبر مشاريع قومية تتضمن اعترافا ودمجًا للكيان الصهيوني، حتى من قبل الإعلان رسميا عن قيامه، تتجسد فيه بدقة بالغة معاني رؤية زعيم الحركة الصهيونية من خلال تعزيز حالة الوهم لدى الطامعين في فلسطين، داخلها وخارجها، وكيف أن الحركة الصهيونية تحرص أن تبدو متفاعلة ومستجيبة مع هذه الأطماع، بل وتعمل لخدمتهم في سبيل تحقيقها. غير أن عناصر الغواية التي تقدم بها الهاشميان: ملك وأمير، لم تكن في نظر الصهاينة تستدعي البحث أو التأمل السياسي، كون كلا المشروعين قائم بالأساس على فكرة وحدوية، تدمج من خلاله عدد من الدول في كيان سياسي واحد، والكيان الصهيوني أحد أجزائه الرئيسية، وهو مسار يتعارض بالكامل مع المسار الذي حددته القوى الاستعمارية قبل عقود قليلة من تاريخ الإعلان عن هذي المشروعين، وهو المسار الذي كان يقضي بتفتيت المنطقة العربية وشرذمة كياناتها السياسية، ليصبح بمقدور القوى الاستعمارية في تلك الفترة، والكيان الصهيوني في فترة لاحقة من السيطرة على منطقة والتحكم بمصير شعوبها. وفي خضم هذه الأجواء بدأت القوى الاستعمارية بالعمل على إنضاج فكرة مؤسسة قومية جامعة للدول العربية، ولكن دون مشاريع وحدوية.

   وبالصيغة ذاتها التي أخرجت من خلالها بريطانيا وعد بلفور وتعهدها بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد نظرت بالعين العطوف ذاتها على العرب، وأعلن وزير الخارجية البريطاني، أنطوني إيدن في شباط/مارس 1943 عن إنشاء منظمة إقليمية أطلق عليها “جامعة الدول العربية”، وجرى التعريف بها كونها: منظمة تُعنى بتعزيز مظاهر التعاون بين دول الإقليم في المجالات الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وبعد سنوات قليلة من نشأة الكيان الصهيوني بدأت تتردد مقولات وطروحات حول انضمام إسرائيل إلى هذه المنظمة الإقليمية. في حينه كانت الفكرة تعدّ ضربا من ضروب الخيال، أما اليوم، وبعد انفراط عقد هذه المؤسسة، وغياب دورها الفاعل لدرجة بلغت الموت السريري، فإن إنعاش هذه المؤسسة وتجدد حيويتها لن يكون متاحا إلا وفق شروط تتوافق مع التبدلات والتطورات التي شهدتها المنطقة خلال الأعوام القليلة الماضية، وفي مقدمة هذه الاشتراطات انضمام إسرائيل إلى هذه المنظمة بصفتها عضوا طبيعيا كسائر أعضاء الدول العربية، وهي قضية ستكون مثار معالجة في الحلقة المقبلة.   

   وإذا كان النظام الملكي الهاشمي، هو الذي افتتح النهج التأسيسي لعلاقات اقتصادية وسياسية مباشرة مع الصهاينة، فإن نظاما ملكيا “علويا” سار على ذات النهج، فكانت مملكة المغرب في عهد الملك المغربي محمد الخامس، بمثابة الخزان البشري الذي كان يمد الكيان الإسرائيلي بعد إعلان دولته، بأعداد كبيرة من الكتل البشرية اليهودية المهاجرة إلى “إسرائيل. ولفترة طويلة من عمر هذا الكيان، كانت الجالية اليهودية القادمة من المغرب هي ثاني أكبر التجمعات البشرية في إسرائيل بعد اليهود الروس. وكان اليهود المغاربة من أكثر الكتل البشرية المحلية اندماجا بالكيان الصهيوني، وعدد غير قليل منهم بلغ مراتب متقدمة في الإدارات الحكومية والأمنية والأحزاب السياسية. ورغم الأعداد المهاجرة الكبيرة التي رحلت إلى “إسرائيل”، فإن أعدادا لا يستهان بها حافظت على أماكن تواجدها في المغرب. وعن هؤلاء كتب الفرنسي اليهودي، رينيه كاسا، “إن وجود هؤلاء في المغرب، سيجعل من إقامة علاقات بين إسرائيل والمغرب أكثر سهولة”. 

العدد الأخير العدد الثالث والعشرين بعد المئة ثقافة وفكر سياسة

عن الكاتب

نبال خماش

كاتب أردني