قراءة في كتاب “نحو فلسفة علمية” للفيلسوف زكي نجيب محمود (2)

شعاب الطريق:

إن الفلسفة العلمية التي يدعو إليها زكي نجيب محمود ومثلما وضحناها في الجزء الأول من هذه القراءة، ليست بجديدة ولا بدعا من الأمر، ويرى المؤلف أنه قد تناوب على مر التاريخ ضربان من التفكير الفلسفي، وذلك من حيث الحافز الذي دفعهم للتفلسف.

فهنالك فلاسفة استهدفوا الغايات الدينية أو الخلقية وقد مثل هذا التوجه أمثال أفلاطون وسبينوزا وهيجل، وفلاسفة كان التفكير العلمي هو دافعهم أمثال ليبنتز ولوك وهيوم، وبينهما فريق ثالث وسطا ويمثله أرسطو وديكارت وباركلي وكانت.

ويبين أنه وإن كان يدعو إلى تحييد الفلسفة التي تدعو لتثبيت قواعد الدين والأخلاق، إلا أن ذلك لا يعني مطلقا التخلي عنهما وكل ما في الأمر “هو أننا لا نريد للفلسفة بمعناها الاصطلاحي الدقيق أن تكون وسيلة لنشر أخلاق بعينها أو دين بذاته؛ لأن لهذين وسائل أخرى ليس بينها التحليل العقلي الموضوعي للعبارات اللغوية وما تتضمَّنه من قضايا وكيفية إثبات هذه القضايا”[1].

ويبرر ذلك بقوله إن المفكر إذا ما جعل أساسه في التفكير عقيدة دينية أو مذهبا أخلاقيا فإنه يستحيل أن يكون تقييمه للأشياء والأفعال بعيدا عن تصنيفها، خيرا وشرا، وإذا كان هذا التصنيف حاضرا فإنه أبعد ما يكون عن المنهج العلمي، “فالزهرة عند عالم النبات كائن يُطلَب تحليله وتشريحه، ولا يُطلَب تقييمه جمالًا أو قُبحًا، وكذلك العبارة اللغوية عند من يريد أن يتناولها تناولًا علميًّا شيءٌ يُراد تفتيته إلى أجزائه ومُقوِّماته، ولا شأن له بعد ذلك بما قد تبعثه في نفس قارئها أو سامعها من نشوة أو انقباض”[2].

فالنظرة العلمية تفرض على صاحبها ألا يتجاوز أوضاع الأمور الواقعية، ولما كان وضع الأمور في عالم الواقع وحده هو مجال البحث العلمي، “أُطلقَ على النظرة العلمية اسم «الوضعية»؛ فإن كان «الوضع» القائم الذي يشغل الباحث عبارة من عبارات اللغة أو لفظة من ألفاظها، كانت «الوضعية» في هذه الحالة وضعية «منطقية»؛ ومن ثَم كان هذا الاسم (الوضعية المنطقية) مُميِّزًا لطائفة من أصحاب الفكر صمَّموا على ألا يُجاوزوا الواقع بنظرهم، وعلى أن يكون هذا الواقع الذي يختصُّون به هو اللغة التي يصوغ فيها سائر العلماء علومهم على اختلاف موضوعاتها”[3].

ويرى المؤلفُ أن أول فيلسوف وضعي بالمعنى الشامل والدقيق هو ديفيد هيوم (1711-1776م)، الذي انتبه ونبه على أنه من غير الممكن أن يصل الإنسان إلى وصف العالم الواقع بالمنهج الاستنباطي وحده، وأن من أراد أن يتحدث عن الوجود الخارجي عليه ألا يحصر نفسه بين جدران رأسه، واضعا لنفسه مبدأ زاعما أنه توصل إليه بالحدس، “ثم يستنبط من ذلك المبدأ نتائجه ونتائج نتائجه، وبعدئذٍ يقول إن هذه النتائج التي جاءته استنباطًا، إنما هي تصوُّر هذا الجزء أو ذاك من أجزاء العالم الواقع. ولما كان هذا هو بعينه ما يفعله الفلاسفة الميتافيزيقيون، إذ ترى الواحد منهم يصف العالم الخارجي أو أي جزء منه، لا عن طريق ما قد رأت عيناه أو سمعت أذناه، بل عن طريق استنباطه المنطقي العقلي الصِّرف بادئًا من مبدأ فرَضه لنفسه فرضًا؛ أقول إنه لما كان هذا الضرب من التفكير هو بعينه ما يفعله الفلاسفة الميتافيزيقيون، فقد جاء هیوم بمثابة الضربة القاتلة الأولى للتفكير الميتافيزيقي”[4].

إذن فالمؤلف يرى أن المنهج الاستنباطي لا يكفي وحده وبذاته أن يُنبئنا بشيء عن العالم الواقع وإنما سبيل ذلك النظر والتمرس في الظواهر عن طريق الحواس، وأن هيوم كان حازما صارما في تطبيق هذا المبدأ دون لين أو تسامح، ولم يتساهل في ذلك كما تساهل قبله لوك وخاصة عند تطبيق هذا المبدأ على أشياء كالنفس الإنسانية، فهي عند هيوم كغيرها من الأشياء إن لم يخبُرها بالحواس فلا علم له بها، وعليه كل حديث عنها مجرد حديث لا قيمة له.

فيما مضى كان للمنهج الاستنباطي تأثيرًا كبيرًا جدا على الفلاسفة بمختلف مذاهبهم، فما على هؤلاء الفلاسفة إلا أن يتفقوا على صحة حقيقة واحدة، أو عدة حقائق، لينطلق بعد ذلك كل منهم في تفصيلات توصلهم إلى نتائج محتومة للمقدمات الأولى التي انطلقوا منها حسب اتفاقهم، “انظر مثلًا إلى الجهد الجبَّار الذي بذله توماس الأكویني (١٢٢٥–١٢٧٤م) ليستخلص تفصيلات المذهب الكاثوليكي كلَّها من عدد قليل جدًّا من المقدمات، كان يراها قريبة إلى كل عقل سلیم، وإذَن فلا عقبة هناك تَحُول دون الاتفاق على صوابها؛ وبالتالي يتمُّ الاتفاق على مجموعة التفصيلات التي تلزم عنها لزومًا منطقيًّا…هكذا فعل ديكارت حين علَّق بناءه الفلسفي كلَّه على مِسمار واحد، هو نقطة البداية التي زعم أنها «واضحة بذاتها»، وهي تقريره عن نفسه أنه يُفكر، ثم جاءت تفصيلات البناء كله نتيجةً لازمة عن تلك البداية… وهكذا فعل سبينوزا الذي أغراه القالب الرياضي الاستنباطي إغراءً حدا به أن يستخدم هذا القالب كما استخدمه إقليدس بغير تحريف ولا تغيير؛ بُغيةَ أن يصل إلى نتائج لها اليقين نفسه الذي تتَّصف بها نظريات إقليدس، فتراه في كتابه «الأخلاق» يبدأ —كما فعل إقليدس تمامًا— بطائفة من مُسلَّمات، منها ما هو تعريف ومنها ما هو بديهية أو مُصادَرة، ثم طفق بعد ذلك يستخرج من تلك المُسلَّمات كل ما يمكن استخراجه من نتائج، فإذا كان بين هذه النتائج ما يُشير إلى العالم الطبيعي الخارجي، كان معنى ذلك أنه استطاع الحديث عن هذا العالم ناسجًا من عقله الخالص، بغير حاجة منه إلى استخراج حواسه في ملاحظات أو تَجارِب”.[5]

وعلى هذا سار ليبنتز الذي يقول إن هناك حقائق عقلية وحقائق واقع، والحقائق العقلية صدقها أزلي وضروري في النفس شأنها شأن الضروريات سواءً بسواء، وتستمد صدقها من مبدأ عدم التناقض، مثل ذلك أن شكل المثلث محوط بثلاثة أضلاع، ولا يُجيزُ العقلُ ألا يكون محوطا بأضلاع ثلاثة، وتقريرنا لنقيض هذه الحقيقة مساو لقولنا (المثلث ليس مثلثاً)، إلا أنه مهما أكثرنا من الأمثلة الجزئية التي تعرض لنا في خبرتنا مما عساه أن يؤيد حقيقة كلية معينة، فلن يكون بمقدورنا أن نثق بصدقها إلى الأبد لمجرد أننا استقرأنا عددا من الأمثلة التي تؤيدها، فالحواس تستطيع أن توحي لنا بمثل هذه الحقائق الكلية وأن تؤيدها وتثبت صدقها، لكنها لا تستطيع أن تقيم البرهان على استحالة تعرضها للخطأ وعلى يقينها الدائم.[6]

وهكذا برز في القرن التاسع عشر تیَّاران فكريان؛ تيَّار المثالية وتيَّار الوضعية؛ الأول يُلبِّي نداء القلب ويُشبِع الجانب العاطفي من الإنسان، والثاني محصور في حدود التجرِبة وحدها، بحيث لا يُجاوِز عالَم الأشياء العينية التي تُدركها الحواس، وهما متَّفقتان على أن يكون هدف البحث هو الحقيقة القائمة، لذلك تراهما معًا، على ما بينهما من اختلاف في المنهج والوسيلة، ينصرفان إلى البحث في الطبيعة وفي التاريخ، كما تراهما معًا يُسلِّمان بأن العالم تطوُّري سائر إلى أمام، لا سكوني ذو حقائق ثابتة جامدة، ولكننا —مع ذلك— نُلاحظ أن التفكير الوضعي قد أسرع الخُطى حين وهنت قوة التيار المثالي، ولبثَ الأمر كذلك حتى أوشك أن يكون هو الفلسفة القائمة بلا مُنازِع.[7]

وفي رأي كونت أن الفكر الإنساني لا مندوحة له عن السير في مراحل ثلاث تستطيع أن تراها في تاريخ أي علم شئت، أُولى مراحل التطور الفكري مرحلةٌ لاهوتية، لا يكون لدى الإنسان عندها من مشاهدات عن الطبيعة إلا عدد قليل، ومن ثَم تراه يُكمل الصورة لنفسه بخياله؛ فهو لا يجد في هذه المرحلة الأولى بدًّا من تعليل الظواهر الطبيعية، لا بما تشهده حواسُّه ويقع له في تجرِبته، بل بما يُسعفه به خياله المتوقِّد النشيط.

وتأتي بعد المرحلة اللاهوتية في تفسير الطبيعة وظواهرها مرحلةٌ ثانية ميتافيزيقية؛ فها هنا يكون التفسير لا بافتراض كائن روحاني وراء الظاهرة المُراد تفسيرها، بل بردِّ الظاهرة إلى مبدأ أو إلى فكرة أُولى أو إلى قوة غير مُشخَّصة في ذات؛ وهنا كذلك لا يكتفي الإنسان بردِّ كل ظاهرة على حِدة إلى مبدأ خاص بها، بل يُحاول أن يضمَّ شتَّى ظواهر الكون كله تحت مبدأ واحد أو فكرة واحدة، والفرق بينهما هو أن الأداة الواحدة في الحالة الأولى أداة مُشخَّصة ذات إرادة، وهي في الحالة الثانية فكرة مُجرَّدة، وأن الوسيلة لبلوغ تلك الأداة الواحدة في الحالة الأولى هي الخيال، وهي في الحالة الثانية حِجاجٌ منطقي يعلو من النتيجة إلى مقدمتها أو يهبط من المقدمة إلى نتيجتها[8].

“وثالثًا وأخيرًا جاءت المرحلة «الوضعية» حيث حلَّت مُشاهَدات الحواس وتجارِب العلماء محلَّ خيال اللاهوتي وحِجاج الفيلسوف الميتافيزيقي؛ ها هنا بات حتمًا على من يتكلم عن الطبيعة جادًّا أن يصل كلامه بالوقائع المحسوسة، بحيث تكون المطابقة بين العبارة الكلامية من جهة والواقعة المحسوسة التي جاءت العبارة لتتحدث عنها من جهة أخرى، هي علامة الصدق ومِعيار الصواب. وها هنا أيضًا لم يعد الإنسان يبحث عن «عِلل أُولى» يردُّ إليها الطبيعة وما فيها، بل يبحث عن «قوانین» تُصوِّر الاطِّراد الملحوظ في الظواهر الطبيعية؛ أي إنه يبحث عن «العلاقات» الكائنة بين الظواهر الملحوظة، والتي تجعل منها مجموعات من حوادث يَطَّرد وقوعها كلما تحقَّقت ظروف معيَّنة. ولا فرق عنده بين أن يكون موضوع البحث أفكار الإنسان ومشاعره، أو قِطع المادة من حيث الوزن والصلابة؛ لأنه ينظر إلى كل ما يَعرِض له نظرة موضوعية تُحاوِل أن ترى على أي نظام يَطَّرد حدوثه”[9].

هكذا انتهى الفصل الثاني من الكتاب، على أن ما تم عرضه في هذا المقال ليس إلا تلخيصا للأفكار الواردة في الكتاب، متمنيا أن يكون التلخيص أعطى ولو شيئا يسيرا مما حواه الكتاب من معلومات وأفكار عظيمة، وسيتطرق الجزء الثالث للفصل الثالث من الكتاب وهو بعنوان جماعة فيينا.


[1] – محمود، زكي نجيب، نحو فلسفة علمية، ص 39، صدرت هذه النسخة عن مؤسسة هنداوي عام ٢٠٢٢ م.

[2] – مرجع سابق، ص 40.

[3] – المرجع السابق، ص40.

[4] – المرجع السابق، ص 41.

[5] – المرجع السابق، ص42-43.

[6] – المرجع السابق، ص 45.

[7] – المرجع نفسه ص 51.

[8] – المرجع نفسه، ص 52-53.

[9] – المرجع نفسه، ص 54.

العدد الأخير العدد الرابع والعشرين بعد المائة ثقافة وفكر فلسفة

عن الكاتب

هيثم بن ابراهيم المحرمي