كانزا بورو أوي ديوجين الرواية اليابانية

كانزابورو أوي أسم كبير في الأدب الياباني المعاصر، يعده البعض أبرز ممثلي جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية في الأدب الياباني، فهو الآن من أكثر الأدباء اليابانيين نشاطاً ثقافياً وأدبياً،  وأعماله الروائية أكثر عالمية من غيره من الروائيين اليابانيين، حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1994م فهو الأديب الياباني الثاني الذي حصل عليها بعد ياسوناري كاواباتا، وصفه الباحث الأمريكي ذو الأصل الياباني ” ساساو سميوشي ” بأنه ديوجين الأخير الذي يرفع مصاحبه عالياً وسط مراكز تسوق اليابان”(1) قارنه الروائي الأمريكي هنري ميلر بالكاتب الروسي ” دوستويفسكي”، فهو أديب يتطلع إلى إحياء التقاليد والموروثات اليابانية التي يخشى اندثارها في اليابان المعاصرة، والذي عبر عن هذا الخوف في العديد من المحاضرات التي ألقاها بعنوان ” اليابان وانا” والتي من أشهرها محاضراته في استكهولهم العاصمة السويدية، التي عبر فيها عن شعوره بتحول اليابان إلى بلد غامض يغترب عن تراثه وانتمائه الثقافي القاري في محاولته لمواكبة ركب الحضارة الغربية”

المولد والبداية :ـ

ولد كانزابورو أوي عام 1935م، في قرية أرسي في مقاطعة أيهايمي بجزيرة شيكوتو الواقعة في غربي اليابان، على أرض تحكمها الأعراف الريفية التقليدية، وسط تجمع قروي يتميز بالمحبة العميقة بين أبنائه، وكذلك بشيء من غرابة الأطوار، وهما العنصران اللذان سيشكلان أرضاً خصبة لانطلاق خيال أوي، تأثر في بداية حياته الأدبية بقصص الكاتب الأمريكي الشهير ” مارك توين” وبعد أن درس الأدب الفرنسي في جامعة طوكيو، فتن بأعمال رابليه وكاموا وسارتر وسيلين، وأشعار دانته ويليام بلايك وت. إس إيليوت وبيتس، نظم خلال مرحلة الدراسة قصائد ” لواكا ” وكتب قصص ومسرحيات ألقى فيها الضوء على الحياة وسط مسقط رأسه، التي أبرز فيها الطابع شديد الخصوصية الذي تتميز به هذه المنطقة، حيث لفت الأنظار إليه بالعديد من الأعمال المميزة نذكر منها” معطاءون هم الموتى” أقطف البرعم ودمر الذرية” طريدة التدجين” الذي حصل من خلالها على أول جائزة مرموقة في الأدب الياباني تدعى ” أكوتاغاوا” وكانت المرة الأولى التي تعطى فيها لأديب في ال 23 من عمره،

سمات عالمه الروائي :ـ

وأعمال كانزابورو الروائية ، تدور حول المشهد المتغير للمجتمع الياباني، والدراما العائلية المضطربة، حيث نجح خلالها في تقديم الإنسانية بشكل وأضح، وبرع في مزج ما هو عام بعمق تجربته الذاتية، فجاء نتاجه الروائي معبراً عن أهم مرحلتين في حياته والذي قال عنهما في أحد الحوارات ” هناك أمرين في حياتي قد أثرا بقوة في كتاباتي، الأول حدث عام 1963م عندما ولد ابني هيكاري مصاباً بإعاقة ذهنية حادة ” فتغير مشروعي فقلت في نفسي ستكون حياتي معه هي موضوع كتاباتي ” (2) وهو ما انعكس في روايتي الصادرة في عام 1964م بعنوان ” مسألة شخصية ” واستحضره في روايات أخرى من أبرزها تلك الرواية القصيرة ” علمنا أن نتجاوز جنوننا” والثاني تمثل في زيارة قمت بها لهيروشيما للكتابة عن التأثيرات اللاحقة لقصف المدينة بالقنبلة الذرية، وقد انعكست هذه الزيارة في العديد من الأعمال منها كتاب ” مذاكرات هيروشيما” ورواية الطوفان يصل روحي، ولست استبعد العودة إلى الكتابة عن تأثيرات الطاقة النووية في المستقبل” فعالمه الروائي عالم متنوع وثري استطاع خلاله تحرير الأدب الياباني من نمطه الثابت وتحريكه نحو المسار الحيوي السائد للأدب العالمي، فأعماله تتميز بالوصف الدقيق لمشاعر وخلجات النفس البشرية، يتداخل فيها الذاتي مع التاريخي، الحلمي مع الواقعي، المتخيل مع الأسطوري، والسرد مع الشعر، والمسرح مع النقل التوثيقي في توليفات قلما يعثر القارئ على مثيلاتها في الروايات المعاصرة، “الأمر الذي جعل ليس من السهل ترجمة هذا الكاتب الياباني من نواح عدة منها صعوبة أسلوبه، الذي لا يخلو من التعقيد، رحابة عالمه وتقاطع الشخصيات داخله، مراوغته السردية التي تجمع بين الكلاسيكية والتجريب الحداثي، البعد التراثي والفلسفي الياباني داخل النسيج الروائي” (3) ، ففي فرنسا على سبيل المثال، كانت روايات ” أوي ” قبل فوزه بجائزة نوبل تترجم عن الإنجليزية، وليس عن اليابانية، وكانت قليلة على خلاف روايات ياسوناري كاواباتا مثلاً ويوكيو ميشيما وسواهما، أما الترجمات العربية فقد ترجمت غالبيتها عن الإنجليزية،  فقد ظهر هذا الاتجاه واضحاً في أعمال كانزابورو الروائية، وأصبح من السمات الواضحة لأدبه الذي مثل بصمة واضحة في مسيرة الرواية اليابانية المعاصرة بل والعالمية أيضاً،

أعماله الروائية :ـ

 قدم كانزابورو على مدار 60 عاماً، من مسيرته الأدبية  ، العديد من الأعمال الروائية الهامة، نذكر منها “علمنا أن نتجاوز جنوننا”، وهي مجموعة روايات قصيرة، وليست رواية واحدة، أو مجموعة قصصية كما يخيل للبعض، وقد ترجمت هذه الرواية إلي العربية، من ترجمة كمال يوسف حسين، وصدرت عن دار الآداب البيروتية في عام 1988م، عن سلسلة من الأدب الياباني،  وهذه الروايات القصيرة هي على التوالي، علمنا أن نتجاوز جنوننا” ويوم يكفكف دمعي بنفسه، الجزاء، وأجوى المسخ السماوي” وهي تستوحي تجربة أوي الحياتية الخاصة ومعاناته والصراع العميق الذي عاشه بين انتمائه إلى الماضي، وانجرافه القسري في الحاضر وتمثل عالمه الفريد وأسئلته الميتافيزيقية وتأملاته، ثم تتابعت رواياته التي حصد عليها العديد من الجوائز، نذكر منها أيضاً ” أقطفوا الزهور أقتلوا الأطفال عام 1958م،  عصرنا 1959م ، الصرخات 1963م، رسائل إلى سنوات الحنين، وجود هادئ، حكاية عجائب الغابة،” النساء يصفقن لأشجار المطر عام 1982م وهو عمل روائي يدور جانب منه في مدينة هونولولو الأمريكية، وعلى وجه التحديد في مصحة للأمراض العقلية،  انهضوا يا شباب العصر الجديد 1983م، عضة فرس النهر 1985م، الحكاية العجيبة ل. أ. م، الغابة 1986م، رسائل لسنوات الحين إلى الوطن 1987م، الحياة والأقارب عام 1989م، حياة هادئة 1990م، و رواية علاج البرج وهي رواية  من روايات الخيال العلمي وقد صدرت  1991م، حتى أخر أعماله الروائية ثلاثيته ” الشجرة الخضراء الملتهبة” التي صدرا جزئيين منها بالفعل، بعد إعلان فوزه بجائزة نوبل وهما ” عندما هزم المخلص” والتذبذب ، ثم صدر الجزء الأخير مؤخرا بعنوان ” وداعاً لكتابي”

أشهر أعماله الروائية :ـ  

 أما عن أشهر إعماله الروائية التي ارتبطت بأذهان القارئ العالمي عامة، والقاري العربي على وجه الخصوص، رواية مسألة شخصية، التي ترجمها إلى العربية اللبناني وديع سعادة، وصدرت عام 1987م عن مؤسسة الأبحاث العربية في سلستها الشهيرة ” ذاكرة الشعوب ” ثم صدرت لاحقاً بعنوان أخر هو ” هموم شخصية” وهي رواية مستقلة تنتمي إلى أدب السيرة الذاتية، صدرت عام 1964م، حيث اختار أوي الكتابة عن موضوع معقد، مستنداً إلى تجربته الخاصة، وهو كيف يكون رد فعل الإنسان عندما يولد له طفل غير طبيعي، متخذاً من شخصية ابنه هيكاري، الذي ولد معاقاً محوراً ورمزاً لإعاقة أشمل، هذه الرواية التي لاقت استحساناً كبيراً في الأوساط الثقافية والأدبية اليابانية، وعقب عليها أديب اليابان الشهير ” ميشيما يوكيو” بقوله ” لقد وصل كانزابورو إلى ذرة جديدة في رواية ما بعد الحرب العالمية في اليابان” (4)، وهذا الحكم قد فرض نفسه بقوة على أعمال، كانزابورو الروائية التي جاءت بعد ذلك، مثل  روايته الكلاسيكية الصرخة الصامتة، التي صدرت عام 1967م والتي أشادت بها اللجنة الملكية السويدية في بيانها عند منحه جائزة نوبل، هي ورواية رهان العصر التي صدرت عام 1979م التي تعد  من أعماله الروائية الهامة أيضاً، و رواية الصرخة الصامتة  تحمل قدراً كبيراً من الدراما وتسرد أحداثاً هامة من وجهة نظر شخصية سلبية تميل إلى الانعزال والانطواء، أهم ما يميزها هو التغيير والتحول الذي يحدث للبطل، فيتحول إلى بطل إيجابي يتخلص من كآبته وسعيه لأنهاء حياته فيبدأ حياة جديدة، حيث يجد خلاصه الفردي أخيراً بالتواصل مع ماضي أسلافه، فهي رواية تتناول رحلة الإنسان في التصالح مع ذاته بعد اكتشافها وفهمها، وأن هذا التصالح كان بالعودة إلى الأسلاف، الذين يشكلون جزءاً راسخاً من فهمنا لذاتنا ولهويتينا، وهذه الرواية ترجمت أيضاً إلى العربية، حيث قام بترجمتها الشاعر العراقي سعدي يوسف، وصدرت عن دار المدى عام  1998، ثم تأتي رواية   الموت غرقاً، التي تعد أيضاً من أهم أعماله الروائية بحسب النقد الياباني،  وهي رواية ترجمت حديثاً إلى اللغة العربية، فقد قام بترجمتها أسامة أسعد وصدرت عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر عام 2019م، وتدور أحداثها في جو يجمع بين الأسطورة والفانتازيا والتاريخ والسيرة الذاتية، هذه الرواية التي يرجح أن تكون أخر رواية لصاحبها المولود عام 1935م بعدما قرر الانكفاء بعد صدورها كما صرح بذلك وقد بلغ الرابعة والثمانين من عمره   ، حيث يسعى في هذه الرواية  إلى استكشاف الأعماق المضطربة الكامنة في الروح الإنسانية الفردية والجمعية ، إنها رواية داخل رواية، تصف الأعماق المضطربة لعالمي الموت والموروثات وتكشف جوانب واسعة من الحياة الاجتماعية والسياسية السائدة في اليابان، ونمط الفن السائد ولا سيما المسرح وتؤكد على قدرة الفن الروائي على معالجة الصدمة، التي تصيب الفرد والجماعة، فالرواية مسكونة بالفن والأمل والموت يتربع على عرش البطولة فيها، فالبطل كوغيتو شوسو  هو كاتب ذائع الصيت في عقده السابع يجد نفسه مجبراً على كتابة عمل روائي عن ملابسات موت أبيه، حيث يعود إلى قريته لتسلم صندوق جلدي أحمر يحوي وثائق وتفاصيل متعلقة بأبيه، وموته غرقاً خلال الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي أتاح لذكرياته أن تتدفق حول تلك المرحلة في تاريخ اليابان من أوضاع سياسية واجتماعية وعلاقات أسرية، وعلى انتماءات الأب وصداقاته السرية، التي تثير التساؤلات ويكشف الصندوق خفايا تلك المرحلة بمحتوياته من كتب وأوراق توثق لرحلة الأب الأخيرة في الحياة، أما نقاط المفاجأة في هذه الرواية القائمة على لعبة السرد داخل السرد والمسكونة بمسائل الفن وقضايا الأمل والموت،  فهو استعانة الروائي بأسماء غربية داخل السياق السردي للرواية، حيث نجد أنها  تغوص في جماليات الشاعر المسرحي، اس إيليوت، وسيمفونيات الموسيقار بيتهوفن، وفكر الكاتب الميثولوجي السير جيمس جورج فريز، والمفكر الفلسطيني الراحل إدوار سعيد، الذي كانت تربطه به علاقة صداقة قوية تحدث عنها قائلاً ” عندما يتعلق الأمر بالتفاؤل يمكنني أن أقول إني أتذكر صديقي الراحل إدوار سعيد، الذي قرر أن يواصل عمله المتعلق بالقضية الفلسطينية حتى النفس الأخير، وأنا ولدت في الفترة نفسها التي ولد بها سعيد، لذا فأنا أرى مثله، أن بذل قصارى جهدنا في العمل الذي نقوم به يجعلنا متفائلين” (5) فقد نجح أوي في سبك أحداث الرواية ووقائعها وشخصياتها في سياق قائم على تقنية الرواية داخل الرواية، بأسلوب حداثي لم تعهده الآداب اليابانية من قبل.

أخيراً :ـ  

 وفي النهاية نقول أن عالم كانزابورو الروائي عالم ملئي بالأفكار المركبة والخيال الذي لا يعرف حدود، والثقة المطلقة بالنفس، وما يعنيه ذلك من مواجهات مع مقولة النفس وما يستدعيه من رموز وموضوعات وطرائف ولغة تخفي وراءها عمق العاطفة وتشابك المعاني، هذه الأمور التي تجعل منه أقوى شخصية في العالم الأدبي لليابان في الوقت الراهن.  

الهوامش :ـ

1- كمال يوسف حسين، كانزابورو أوي يحكي عن أسطورة قريته، مجلة نزوى، عدد يناير عام 1995م

2سعيد بوكرامي، كانزابورو، روائي ياباني يجمع بين الكتابة والشراسة، مجلة الفيصل، عدد أغسطس عام 2017، مقال مترجم عن الفرنسية .

3- عبده وازن ، محاور رواية الموت غرقاً للياباني كانزابورو ، مجلة الشارقة الثقافية ، عدد يناير عام 2020م

4- كمال يوسف حسين، مجلة نزوى مصدر سابق

5- في عقده الثامن كانزابورو، تعلمت التفاؤل من إدوار سعيد وكونديرا ، مجلة الفيصل، عدد مايو ـ يونيو 2015م .   

غير مصنف

عن الكاتب

خلف أحمد محمود أبوزيد