الشعر لماذا؟ وهل مات حقًا؟

كتب بواسطة حاتم السروري

إن الشعر باعتباره نوعًا أدبيًا عريقًا وملهمًا، هو ذلك الفن الذي يقوم على ترقية الإنسان وتهذيبه من داخله بإكسابه القدرة على تذوق الجمال والإحساس به؛ بل على تذوق الحياة ورؤية ما وراء الأشياء، والعروج إلى سماوات الحكمة..

والشعر وإن تعدد تعريفاته التي يكمل بعضها بعضًا لا ينمي الإحساس فقط؛ وإنما – وبالقدر ذاته- يثري وعي الإنسان بذاته وعالمه في صياغة جمالية إذا فُقِدَت لم يعد القول المنظوم شعرًا؛ فالشعر هو الجمال، وإن بعض عناصر الجمال تكمن في الرقي النفسي والعاطفي، ورقي الفهم للأخلاقيات الإنسانية والحقائق الكلية للحياة، ولعل هذا ما يربط الشعر بالفلسفة في علاقة لا انفصام لها، فالشاعر الحق يستبطن فيلسوفًا بداخله.

ورغم كل ما يقال عن تواري فن الشعر عن المشهد الثقافي وأنه أصبح بلا جمهور؛ إلا أن الحاجة إلى الشعر كنوع أدبي هي حاجة إنسانية قديمة متجددة؛ فالإنسان بحاجة إلى التعبير المكثف المختصر، المُوَقَّع، الذي يتسم بالتوازن والتناغم والانتظام البنائي وتشكيل الأنساق الدلالية، فالشعر فن موسيقي مؤثر، وأحد أوجه جاذبيته هي القدرة على اكتناز الكثير من المعاني في عبارات قصيرة، وهذا يجعل من الشعر أدبًا سهل الحفظ والاستعادة، ومن هنا يتردد الشعر على ألسنة الكثيرين من حيث أنه ينبوع الحكمة ومصدر المربين، ففي الشعر تبدو لنا دروس الحياة وعصارة التجارب البشرية، وذلك في إطار كلمات قليلة العدد جَمَّة المعاني..

ويحق لنا أن نتسائل: كيف يمكن للشعر أن يموت وهو أقدم الأنواع الأدبية على الإطلاق؟ وقد عرفته الحضارات الإنسانية القديمة جميعها دون استثناء، وكتب عنه أرسطو منذ ما يزيد على الألفيْ عام “في الشعر” وهو الكتاب الذي قسم فيه الشعر إلى ثلاثة أنواع: الشعر الغنائي، الشعر الملحمي، والشعر المسرحي.

ثلاثة أنواع من الشعر يميز بينها أرسطو بالضمائر الثلاثة، فالضمير “أنا” يرمز به للشعر الغنائي.. والضمير “هو” يرمز به للملحمة.. أما الضمير “أنت” فهو عند أرسطو رمز للدراما..

ويعتقد بعض الباحثين أن الإنسان عندما تحدث للمرة الأولى في تاريخه الحافل قال شعرًا؛ ويعني هذا على مذهبهم أن اللغة الإنسانية الأولى كانت ضربًا من ضروب الشعر، ودليلهم على هذا أن اللغة الأولى كانت تحتوي على خصائص الشعر الجوهرية، وهي: “الإيجاز- الكثافة- الإيقاع- الانفعال العاطفي” فقد كانت هذه اللغة البدائية فقيرة وقليلة الكلمات، ومع ذلك فقد كانت لغةً بكرًا أصيلة، وقد أراد بها الإنسان القديم أن تعبر عن الكثير من المعاني، وبهذا اجتمع فيها الإيجاز مع الوفرة الدلالية مما أدى إلى الاكتناز، والاكتناز أحد خصائص الشعر المحورية، وبهذا يكون الشعر هو بداية الكلام..

يضاف إلى ما سبق أن اللغة الإنسانية الأولى كانت إيقاعية الأداء، بما يعني أنها تقترب من الموسيقي أو أنها لغة موسيقية قريبة من الغناء، ويأتي هذا بالطبع من حيث أن اللعب كان أحد سمات هذا العصر البدائي الذي شهد ملامح طفولة الإنسانية وبراءة الإنسان القديم، ذلك الإنسان الذي كان يلعب ليعيش أو يعيش ليلعب، وحتى في صيده وبحثه عن الطعام كان يلعب، والغناء صديق اللعب، ومن هنا كانت لغة هذا الإنسان لغة مُغنَّاة؛ وبالتالي كانت لغة شاعرية.

ونظرًا لغياب المعارف العلمية والرؤى الفلسفية عن الإنسان البدائي الذي اكتشف اللغة؛ فقد كانت لغته مفعمة بالانفعالات النفسية والأحاسيس العاطفية، وهذا أيضًا دليل يضاف إلى ما مر بنا من أدلة يرتكن إليها القائلون بأن الإنسان الأول عندما تكلم للمرة الأولى كان كلامه شعرًا.

ورغم وجاهة كل ما سبق من أدلة؛ إلا أن هذا الفريق من الباحثين فاته أمر في غاية الأهمية؛ ألا وهو أن هدف تلك اللغة البدائية لم يكن إنتاج الجمال؛ وإنما كانت غايتها نفعية بامتياز، فهي لغة تواصل وتعبير وليست لغة فن أو إبداع، وما كانت خصائص الشعر التي ظهرت لنا في تلك اللغة مقصودة لذاتها، فليس هناك عمد ولا قصدية، وإنما كانت هذه الخصائص نتاجًا لطبيعة المرحلة المعرفية، وبالتالي تعطل عنها معنى الإبداع، ومن ثم يكون من الشطط والمغالاة أن نقول عن الإنسان أنه نطق شعرًا حينما أتته الرغبة في الكلام..

ويذهب فريق آخر إلى أن مصدر الشعر هو: “تراتيل الكهان” والتعاويذ والرُّقى التي كانت تُكتَب وتُقرأ لتحقق أثرًا سحريًا في الإنسان والحيوان والأشجار، أو للتأثير على نتيجة الحرب فتكون في صالح قارئ التعويذة، أو لتحقيق اليسر والتوفيق في مهمة الصيد، وكذلك لعلاج الأمراض، واستنزال المطر – في اعتقاد الإنسان البدائي- فهي تراتيل مكتوبة تقوم على الإيمان القاطع بتأثير الكلمة ذات الطبيعة الخاصة، ونحن نرى الآن وفي كل زمان أن للكلمة الشاعرة تأثير على السامع أو القارئ بما يجعلنا نقول أن الشعر فن مؤثر جدًا، وهو خير ما يشعل فينا الحماسة والحب والرحمة والحكمة، فالشعر وإن كان قد انفصل عن هذا المنزع البدائي الذي رأى فيه ضربًا من السحر؛ غير أنه لا زال حتى تلك اللحظة يسحرنا ويأسرنا ويحقق ما يبتغيه الشاعر الفذ من التأثير في الناس..

وقد يدعم ما ذهب إليه فريق الباحثين الذين رأوا في التراتيل الكهنوتية أصلًا لفن الشعر، أن ثمة تصور عام شاع لدى العرب الأقدمين بوجود قوى خفية تلهم الشاعر ليخرج للناس قصيدته فتأسر ألبابهم، وقد اصطلح العرب على تسمية هذه القوة الخفية بـ “شيطان الشعر” ذلك أن الشعر – عند العرب- ليس قولًا بشريًا عاديًا؛ بل هو قولٌ خارق جاء من عالم غير محسوس، ومن هنا رأينا الشاعر “رؤبة بن العَجَّاج”  يقول في أرجوزته متفاخرًا:

إني وإن كنتُ صغير السنِّ.. وكان في العين نُبُوٌّ عني

فإن شيطاني أمير الجِنِّ.. يذهبُ بي في الشعر كلَّ فَنِّ

والواضح  لدينا هنا بما لا يحتاج إلى بيان أن “رؤبة” يصرح بأن ما يقوله ليس من اختراعه المحض؛ وإنما هو “وحيٌ وإلهام” ثم يتفاخر بأن مُلْهِمَهُ ليس مجرد شيطان عادي؛ بل هو “أمير الجن”!! ومؤدى البيتين أن قصائد رؤبة هي فنون علوية فخيمة تأتي من مصدر مهم، مصدر أميري في عالم الجن والقوى الخفية!!

ثم لم يكتفِ العرب بالقول أن للشعر شيطانًا؛ بل قسموا الجن إلى قبائل وشعوب، وغدا كل شاعر يقول بأن شيطانه ينتمي إلى قبيلة جنية معينة؛ فحسان بن ثابت رضي الله عنه – على سبيل المثال- كان يعتقد بأن شيطانه ينتمي إلى قبيلة “بني الشيصبان”..

وظل القول بأن للشعر شيطانًا قائمًا حتى عصرنا الحديث، فعندما مدح حافظ إبراهيم صديقه أمير الشعراء أحمد شوقي مرحبًا به بعد عودته من المنفى بأسبانيا وجدناه يقول:

إن قال شعرًا أو تَسَنَّمَ منبرًا.. فتعوذوا بالله من شيطانِهِ!

على أن ديننا الإسلامي الحنيف يقسم الشعر إلى نوعين؛ فما كان من الشعر غزلًا فاحشًا أو إثارة للعصبية والحقد بين القبائل أو هجاءً مقذعًا، فهذا من نفث الشيطان، وأما الشعر الذي نجد فيه الحكمة والحث على الفضائل، والتعبير عن العواطف الإنسانية النبيلة، فهذا شعر جيد مستساغ وخصوصًا لو كان جزلًا فصيحًا، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع الشعر ويثيب عليه، وقد أنشد كعب بن زهير بين يديه قصيدته التي مطلعها “بانت سعاد” وبدأها بالنسيب كما نعرف ولم ينكر عليه، وبعد أن فرغ كعب من إنشادها عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وألقى عليه بردته..

والقول بعلوية القول الشعري وكونه إلهامًا قول لا تعوزه الدقة في الحقيقة؛ بل إن فيه بعض الصحة، فالقرآن الكريم يقول عن الرسول “وما علمناه الشعر” فالشعر إذن موهبة من الخالق بنص هذه الآية، ولحكمةٍ معلومة لم يأتِ النبي الكريم شاعرًا، وذلك ليتبين للعرب ولكافة البشر أن القرآن وحي إلهي منزل وليس من جنس قول البشر ولا يمكن أن يُعد شعرًا، وليس فيه ما في الشعر من خيال وحالٍميَّة بل هو القول الحق المبين من لدن الحكيم العليم سبحانه..

والشعر ليس مجرد ممارسة جمالية فحسب؛ بل يمكن أن يكون داعية إلى الفضائل بالشكل الذي لا يجعله نوعًا من الوعظ أو الخطابة، وكما يقول أمير الشعراء “أحمد شوقي”:

والشعر إنجيلٌ إذا استعملتَهُ.. في نشر مَكْرُمَةٍ وستر عَوَارِ

ونقول في النهاية إن الشعر لا يموت بل يتجدد، لأن مادته هو الشعور الإنساني وكل حب وشوق وحماسة وحزن وخوف ورغبة وأمل وذكرى، كل هذه الأحاسيس والرؤى هي شعر، ولا تخلو حياة الإنسان أبدًا من عاطفة ومن بوح وتعبير عن هذه العاطفة؛ فنحن إذن بحاجة إلى من يتحدث عنا، عما يدور في ذواتنا من آمال وآلام، ومن هنا كان الشاعر ضرورة، فكيف يموت من لولاه لمتنا من الكبت، كيف لا يشدو المغني؟ كيف لا تبدو روح الحقيقة؟ لاشك أن الشعر سوف يبقى طالما بقي الإنسان، لأن الشعر هو الإنسان…

أدب

عن الكاتب

حاتم السروري