الجبل إلهافي عُمان

كتب بواسطة فدوى سالم

المرة الأولى التي صعدنا فيها للجبل الأخضر في محافظة الداخلية، كانت مليئة بالخوف، والغثيان، ذلك الارتفاع الهائل، وصعود السيارة للأعلى كان له وقعٌ عظيم على معدتي الصغيرة التي لم تعتد السيارة بعد، ولا حتى ذلك الشارع الصعب، وخوفي العظيم من أن نسقط من الشارع ونموت قبل أن نرى الجبل والخضرة والرمان، والجو البارد الذي كان مختلفًا عن الحرارة التي تحيط بجبالنا في البلاد. وسط عددٍ من القصص التي تذكر أولئك الذين سقطوا من الجبل الأخضر، توقفت الفرامل عن العمل، لكن جدي قام بخبرته بتوجيه السيارة باتجاه الجبل، الأمر الذي أنقذنا بصعوبة.

في كل قرية في عُمان الداخل، وأحيانًا الساحل، جبل، أو تلة، أو شبه جبل. هذه الجغرافية المليئة بالصخور المتكدسة تعتبر من أغنى مناطق العالم جيولوجية. فالجبل هو شكلٌ من أشكال الحياة، والحماية، والأمان. يعود ذلك بعيدًا جدًا، فالأرض التي تتسع للجبال، هي الأرض التي تتسع للماء، فبين الجبال ينزل الوادي، وتُشق الأفلاج، كنظام سقائي لا يوجد إلا في جبال عُمان، ودواخلها. هذه ما منح الجبل طابعٍ سحري، وعجائبي.  فالماء والجبل، هما عاملا الحياة عند العمانيين، حيث وجدا، وجدت القرى والزرع، وهما مرتبطان بشدة، حد تحسبها واحدًا، لا اثنان، كلاهما ينتمي للآخر.

إله الحرب:

 في زمن الحروب، أو الصراعات الأهلية في عُمان، كان العمانيون يستخدمون هذه الجبال للحماية، من خطر القبائل الأخرى، أو القرى الأخرى، فيخرج الناس من الجبال القليلة العارية، إلى الكثافة الصخرية والمساحة الضيقة، التي تجعلهم يشعرون بالأمان. والد جدتي الذي كان من قبيلة أخرى، ومن محافظة أخرى تمامًا، خرج هاربًا عبر الجبال من جور الناس، وجور الحرب، حاملًا معه حياة واسما، داخلًا في دهاليز لا نهائية، حتى وصل لبلدتنا، وكبر فيها وأنجب أطفالًا، هم جدتي وإخوتها، عبر الجبال وفي الجبال كانت الحياة ممكنة، وغاية، تسهلها الجغرافيا الشاهقة، وجيولوجية الصخور المتراكمة، عاش جدي الأكبر في البلدة حتى مات ودُفن على تلة جبل.

إله الماء:

الجبل في سياق القرية هو الوجود الشاهق العادي، والصعب، وهو حالة تكاثف الصور الحية للحياة القائمة بفعل الطبيعة قبل ملايين السنين، فمجرى الوادي الذي أوجدته عوامل التعرية، وضرب الماء على الصخر، يُمثل حالة إنسانية بحتة، فالوديان هي مصدر الماء الوحيد في مناطق الجبال بعد العيون، ولكن الوادي له قدسيته، فهو يندفع بنيًا محملًا بما حمل، ومن ثم يصبح صافيًا، يمشي بين الصخور، نقيًا من كل شيء، هو مكان للاستحمام، وغسل الثياب وأوعية الطعام، فالجدات والأمهات اللواتي لم يعرفن في ذلك الوقت خزان الماء الحكومي، كُنّ يحملن الملابس والأوعية نحو الفلج أو الوادي.

عندما يندفع ماء الوادي بين الجبال، يُقام عيد ويُضرب المدفع، ويؤذن من منارة المسجد، بأن الوادي دفع، وعندما يكون قويًا يؤذن المنادي بأن القبيل (شبيه السد، مصنوع من أكياس قماشية مكنوزة بالتراب) قد سقط وأنهم سيعيدون بناءه في الساعة الفلانية. وبعد أن يصبح الماء صافيًا، ويصبح خاليًا من الأتربة والطين، تحمل النساء الفرش والبطاطين لغسلها بهذا الماء الحر غير المملوك لأحد.

إله الحكمة:

لا يرتبط الجبل فقط بالحياة، فالجبال هي مهرب من أراد أن يهرب من صخب الحياة اليومية وعاديتها، فيها يصعد الناس ليتنسكوا ويتعبدوا، فهي أقرب للإله، الذي يبدو أنه في السماء.

الجبل هو محراب الصالحين، ووجهة أرواحهم للاعتزال، فيه يرحل العابدون ليعتكفوا بعيدًا عن الناس، يصعد العابدون الجبال ليكونوا أقرب ما يكون للمعبود، وأبعد ما يكون عن الخلق. لقد كان الجبل منذ القدم وجهة اعتزال لمن أراد الابتعاد عن الناس، والتأمل في عالم صخري والتقرب من رب هذا الصخر، كما يفعل قناص زهران القاسمي عندما يصعد الجبل راغبًا في الوعل: “وحدي هنا، وحدي يا رب في ملكوتك الجبلي، ولم يتبقَ من العمر إلا قليل، وحدي أقف بين يديك، أنا الكائن الحجريّ المتآكل والعجوز، لا أحمل إلا ذاكرتي وبعض الأمل.” تلك الصخور المتراكمة فوق بعضها تفتح الأفق أمام فكرة ترسب الحياة، كترسب الصخر، هي التجربة الإنسانية تترسب مكونة هذا الوجود الحالي للإنسان.

إله التفاصيل:

الصخرة فوق الصخرة تصنع جبلًا، وبين الصخرة والأخرى يعبر الماء، وفوق الصخرة تربة يخرج منها الزرع والنخل، وفوق النخل ينزل الرطب، يحصده الناس، ويأكلونه بين الجبال في منازل أو في سكك الحارات، يفرشون على الأرض حصيرهم المصنوع قديمًا من الخوص، واليوم من البلاستيك، ويحملون رطبهم في قيض الصيف، ويجلسون على الأرض التي تظلها الجبال، يشربون قهوتهم اليومية، ويأكلون رطبهم، ويتحدثون عن المال الذي هو النخل، وعن العالم الذي هو القرية.

بين الجبال يمشي الناس، يتريضون رياضتهم اليومية عصرًا، عابرين الطرقات التي شكلتها عجلات السيارات، وأحيانًا قار الحكومة، وخلف الجبال جبال أخرى، كلما ابتعد الجبل أصبح ضبابيًا أكثر، وعندما تنزل الشمس لبيتها، يعود الماشون لبيوتهم، تضمهم الجبال، يصلون صلواتهم، وحين تظلم السماء تخفت الضوضاء، ويرتفع صوت التلفاز.

الجبل في حياتي هو ذاكرة متوالدة، هو صعودنا اليومي أيام الطفولة، حاملين معنا طعامنا، وملتصقين في الصخور. كنا نصعد الجبل يوميًا، ونقف في قمته، نرى الحارة الأخرى، ونعلم كم هي قريبة من قمة الجبل، وكم يجعلها الشارع بعيدة، هذه الجبال، التي ضمتنا طويلًا تحت ظلالها، وعلمتنا معنى الحياة، وتلك الوديان التي نزلناها، علمتنا معنى الطبيعة، فيها سبحنا، وركضنا، وفيها قمت بأول عمل ميداني. في هذه الوديان مات أصدقاء طفولتنا، وأبناء جيراننا، وفي هذه الجغرافية تتوالد الصور مترنحة بين الحياة والموت، الخضرة والجفاف، والطرقات الوعرة، والطرقات السهلة، والقسوة والحنو، مقتبسة كل ذلك من ثنائية الجبل والماء، اللذان يتبادلان الأدوار بينهما. هذه الجبال التي ظننت وأنا مراهقة أن خارجها توجد الحياة، علمت متأكدة بأنها شكل الحياة الذي يبعدك عن صخب العالم المتسارع، ولكن ليس بحثًا عن العزلة وحدها، بل بحثٌ عن الذات في رتابة الحياة اليومية، وصمت الصخور.

غير مصنف

عن الكاتب

فدوى سالم