أدبيات النكبة (2).. والعلاقة مع الآخر/ الصهيوني.في رواية “ربيع حار” لسحر خليفة

كتب بواسطة محمد عطية محمود

 

أدبيات النكبة.. حق العودة في “رأيت رام الله” – مجلة الفلق الإلكترونية (alfalq.com) (ج1)

بين ريتا وعيوني بندقية”.. محمود درويش

تبدو العلاقة مع الآخر، على صلة وثيقة بالحياة في ظل الاحتلال، وأنظمة الفصل العنصري التي يمارس بها المحتل اغتيال أصحاب الأرض اغتيالًا معنويًا وماديًا، كما تبدو ملمحا مائزًا من تلك الملامح التي تقدمها الرواية/السرد في خصائصها التي تعتمد على التخييل فيما وراء كواليس العلاقات الظاهرة والممتدة والمشاهدة التي تطرح صور الواقع، فتبدو تلك الثنائيات المتضادة لترفع النقاب عن تلك الممارسات الإنسانية التي تعقدها هذه العلاقة الجدلية بين المحتل ومحتليه، كنماذج بشرية تسعى في هذا النطاق المحكوم عليه بالانغلاق والأسر. وهو ربما كان الشكل/الإشكالية الجدلية التي تطرحها رواية “ربيع حار” للروائية الفلسطينية “سحر خليفة” التي تلتقط خيوط هذه الثنائيات المتضادة من خلال وعي طفل فلسطيني صغير يعيش تحت نير الاحتلال الصهيوني في بقعة من بقاع الوطن السليب، ينقل تلك المفارقات الإنسانية من خلال كاميرا الحواس التي تعبر تلك الحدود الشائكة لتطرح صورة من صور التشابك مع الواقع على هامش النكبة:

قرَّب الزوم وبعَّد الزوم، ورأى المستوطنة خلف أخيه كما لو كانت من حوله، فهذه شجرة وهذا قرميد وهذه مرجوحة وهذه بنت، بنت شقراء بذيل فرس مثل اللعبة، حلوة وجميلة كما الصورة. هل تحكي عربي أم عبري؟ هل تفهم عليه إذا كلمها؟ لن تفهم عليه ولن تعرف أن لسانه يتعثر به. هل تخجل مثله من الناس؟ في مثل عمره أو أصغر[1]

يبدو التعرف على عناصر الصورة من خلال وعي الصبي الذي يتطلع للآخر/ المخالف/ المبهر في ظاهره في صورة الفتاة الشقراء الصهيونية التي تفتح عليه بوابات لهب الأسئلة والمواجهة من نوع آخر مع الذات ومع ما حوله من مفردات تضع الفارق وتصنع الثنائيات المتضادة التي تعكس واقع الحياة ومظاهرها في كل من المستوطنة والجانب الآخر من الحياة الذي يعيشه في القرى والمخيمات، كما تعكس عدم الثقة والتردد في شخصه الصغير الذي يعكس دلالة أخرى من دلالة عدم الوجود اللائق لأصحاب الأرض الذين تخايلهم أشعة وبريق من استوطنوا أرضهم وفصلهم عن واقعهم القديم من خلال السمات والمحددات التي ترتسم في ذهن الصبي مع تدافع الأسئلة، ودخول الصبي/ المغتصبة أرضه في عالم الفتاة/ المستوطنة لتلك الأرض عبر السياج الفاصل/ الشائك:

 “لكن شعرها مثل القصب، وخداها ملسوعان بشمس الربيع واحمرار التعب. كانت تلعب لعبة الإكس وحدها من غير رفيق. تقفز على رجل واحدة فينط الثوب المزهر وذيل الفرس ينسدل ناعمًا مرة على الصدر ومرة على الظهر، وهي تقفز وتعد البيوت.. آخاد، اشنايم، شالوش، أرباع. فردد خلفها من غير صوت: واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة.. واقترب أكثر من السياج، وهي تكرر: آخاد، وتقفز، أشنايم وتقفز، شالوش وتقفز، أربع وتقف.. ثم استدارات من جديد وواصلت العد[2]

هكذا يتناغم الضدان في لعبة فطرية من خلال وعي مقارن، بالاقتراب والاندماج الشعوري المنجذب نحو تلك السمات التي تجمع بين المتناقضين في الواقع المرير؛ ليجتمعا على حس اللعب وانطلاق الرغبة في عيش مرحلة صبا وتطلع يقف الاحتلال والفصل من خلف الأسلاك الشائكة وموروث النكبة الذي يترسخ في النفوس من خلال مظاهر محددة للصهيوني في ذهن الصبي، وما يميزه من معاول للحرب والعدوان ورمز البندقية والسلاح، وهو ما يستدعي مقولة شهيرة للشاعر الفلسطيني محمود درويش: “بين ريتا وعيوني بندقية” في قصة عشق أخرى تعكس حالة من حالات الاندماج الفطري العاطفي مع الآخر!! لتطفو على ذهن ووعي الصبي المتلعثم دائمًا فاقد القدرة على التعبير شأنه شأن القضية!!     

وهكذا صارا صديقين، أو ربما مشروع صداقة، سر صداقة، سر لا يجرؤ على البوح به حتى لأخيه أو لأمه، فمن هي صديقته هذه؟ ابنة مستوطن بطاقية ورشاش ضخم وأبوه يقول أنه من أوسخ البشر، هو يعرف تماما أن ميرا ليست وسخة وليست قبيحة، بل هي للحق أجمل مخلوق رأته عيناه، وهي لطيفة ونغشة وحركة وتحب الإكس ونط الحبل بعكسه هو، هو لا يحب إلا الكاميرا ودروس الرسم والقراءة والـ MTV[3]

هكذا رسمت شخصية الصبي أبجدية الوجود في هذا الواقع الأليم، فالفلسطيني ليس لديه إلا الانتظار والمقاومة والملاحظة والمراقبة ونمو الملكات الحسية والشعورية الإنسانية التي تمكنه من الحياة؛ بالرغم من الحصار والوقوع في حالة الانحباس خلف الأسوار الشائكة التي لا يجني منها سوى المشاهدة وتلك السمة من الترقب والتردد والانكماش والتلعثم.. كل تلك العناصر التي يطرحا المشهد السردي ببراءته/ فطرية وعيه ولماحية نظرته المحدودة في السديم، مع تدافع الأسئلة والمقارنة المصحوبة بالدهشة والانبهار بنموذج الآخر/ الفتاة التي تمارس معه لعبة الوجود من منظور بعيد تمامًا عن منظور المحتل؛ فهي فقط تمارس اللعب باستمتاع في فضائها برغم محدوديته بالأسلاك الشائكة/ عناصر الفصل والتكتل في مربع قوة، وهو ما يفسره سر علاقة البنت بتربية “الكلب” بشراسته، وولع الصبي بتربية “القطة” الوديعة، وما تشير إليه تلك الدلالة من فوارق، ولوجود ثنائيات متضادة في هذا العالم الخفي/ السردابي/ الموازي لأجواء حياة النكبة، وكمفارقة:

أصبحت القطة أهم مخلوق في حياته، يطعمها الحليب والخبز واللبن فتلعق السوائل وتنأى عن الخبز. كانت ما زالت طفلة بحجم الكتكوت، لكنها خلال أسابيع كبرت ونمت وبدأت تقفز وتختفي خلف الكنبة حين يفاجئها أحد في الدار وهي تخمش أنسجة العفش. حاول إفهام صديقته (ميرا) أن القطة أحلى من الكلب، لكن (ميرا) لم تفهم… تمنى لو استطاع أخذ (ميرا) حيث القطة حتى تراها، لكنه كان يعرف أن دخول (ميرا) إلى بيته غير معقول، فماذا ستقول أمه عنها؟ وكيف سيتصرف معها أبوه؟”[4]                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                

تلك الحيرة والالتباس بين العفوية والقصدية والاستفاقة من حلم وجود الآخر/ العدو في حياة الصبي، والاصطدام بتراث/ ميراث العدواة والبغض والاحتلال الذي لم يمنع المشاعر من النمو وتكوين رابطة قوية من الصداقة تساعد على رصد تاريخ جديد للعلاقة مع الآخر من خلال هذا المنظور التناقضي في كل شيء والمخالف للواقع الخارجي الظاهري الدائر على مستوى القضية وصراع الوجود، حيث تبدو بعض الحقائق الدالة التي تثيرها ذاكرة الوعي الجديد من خلال ما يمتصه الصبي ممن حوله وممن يعانقون سمات من التعامل مع الآخر سواء في السر أو العلن على مستوى التعامل المادي والاعتيادي لحياة تبدو مشتركة بشروط خاصة خاضعة لقوة المحتل ووجوده الحاكم والمحدد/ المؤطر لمدى ما يصل إليه أصحاب الأرض من وجود فاعل أو مسببات للمعيشة والرزق، من خلال أحد من يتعاملون معهم:

إخصاء الحيوانات/ إخصاء البشر

قال عيسى أن اليهود يحبون القطط يجرون لهم العمليات، قط الجيران، جيران ميرا خلعوا أظافره عند الدكتور وقصوا بيضاته ورموها، وصار المسكين مثل النسوان. حملق أحمد وعاد يتأتئ: لكن عنبر قطة مش قط، كله واحد. قطة أو قط كله واحد.. والتفت إليه وحاول مداعبته فقال مازحا: حتى أنت ممكن يخصوك. فارتعد وارتعش وأحس بالخوف والغثيان، ليس خوفًا من أن يخصوه فهو إنسان وبعيد عنهم ولن يخصوه، لكن عنبر. آه يا عنبر! تذكرها.….”[5]   

تلك الممارسات القمعية التي تبدو في نموذج مصغر مثل القطط يمارس عليه المحتل فعل الإخصاء كما يراد أو يحاك بالشعب الفلسطيني على مستوى أعلى من مستويات الترميز أو الإشارة التي تلوح بها تلك المرويات وتدلل عليها، من خلال إخصاء معنوي يعمل على تجريد البشر من إحساسهم بما يميزهم، وهو ما يشعل الهاجس في ذهن الصبي الذي لا يتوقع حدوث مثل تلك الفعلة التي يدرجها الصديق على محمل الهزل، ولكن تكمن في داخل هذا الهزل الحقيقة المضمرة التي يلعب عليها وعي النص من خلال تلك الدعابات أو الانشغالات التي تشغل ذهن الصبي/ المستقبل الآتي لهذا الوطن الذي يعاني من الارتباك واللجلجة وعدم القدرة المكتملة على التعبير عن قضيته!! ذلك الملمح الذي يلح عليه النص من خلال ترددات الشخصية الصبي بين القدرة على الإفصاح وبين اللجلجة كعنصر نفسي مؤثر له دلالاته وتأثيراته على المكون المعرفي المبثوث في داخل النص السردي/ الروائي:

خرج متلصصا مثل القطة. تخيل أنه انقلب إلى قط وله اسفنج طري منفوخ بباطن يديه، ومشى في البدء على أربعة ثم اثنتين وانطلق يركض كالممسوس لأن الأشباح والعفاريت وقصص الغولة والجنيات ما زالت تعشش في رأسه… واتضح النقيق أكثر وأكثر حين اقترب من الهضبة ورأى المستوطنة تتلألأ بالكهارب والكشافات وسياجا من شوك ومواسير وأعمدة طويلة وأنتينات.. قال عيسى أن الرادار يلتقط الصوت، وأبوه قال أن الرادار يلتقط الصور. فمن الأصدق؟ طبعا أبوه، ولهذا عليه أن يتلصص مثل القطة وبحذر شديد لأن المستوطنين مثل الشياطين كل واحد على كتفه بارودة[6]

هكذا يبدو التماهي مع القطة التي بدت رفيقة حسية/ روحانية معبرة عن الحالة التي تمكنت من الصبي وجعلته يلتمس هذا التسلل والتخفي لمواجهة هذا المد الشعوري الذي يدفعه لاستقصاء أثر الآخر الذي حركته في نفسه الفتاة الصهيونية بملامحها المائزة الجاذبة وبهذه الكيمياء المتعطشة للتواصل، لكن رياح التطور على المستوى العام تظل تعلي من أسهم الصدام والصراع، ومعها يرتقي معدل التغيير في سمات شخصية هذا الصبي تبعًا لما بدأ يتفتق عليه وعيه الجديد، على أثر ما يحدث للوطن من تجددات موجات الاعتداء الصارخ الذي تعددت صوره وتشابهت في البطش والتنكيل، وطالته هذه الاعتداءات هو وأهله:

أحسّ أحمد أنه منهم، من هذا الشعب، من هذا النبض المتسارع وأغاني الفداء والمعاني تنساب إليه فترفع روحه فوق “عيبال” فيغدو كالطائر بجناحين ويرى الدنيا مثل الشاشة ومعارك نبيلة واستشهاد، ونسي أمه، ونسي أباه وتذكر ما قالوه حين اعتقلوه بسبب قطة وحين شبحوه على دبابة وجعلوا منه شبه وسادة ودرعا بشريا يحميهم وخرقة إنسان… مع الوقت، ومع التكرار، ومع سماع كلمات الحقد من الجانبين بات حقودا. امتلأ بغضب متفجر يهز كيانه ويجعله يحس بأعصابه كتلة أوتار مشدودة إذا ما نقرت ينفجر اللحن بنغم صاخب، معزوفة موت، وتذكر أخاه شبه الميت، وتذكر إحساسه عند الركل تحت الصفعات والقنابل والرشاشات وهو الأعزل، لكنه الآن ليس بأعزل[7]

هكذا تحوَّلت – في ضمير أدبيات النكبة – الشخصية المسالمة الحالمة المتطلعة لعلاقة سامية مع الآخر بوعي فطري لم تشبه ويلات الحرب والاعتداء والاستلاب والاستيطان البغيض بفصله العنصري الأشد قسوة وحرمانا من كل الحقوق الفطرية والمكتسبات وضياع الهوية التي تواجه مدا عنيفا لا يزيدها إلا إصرارًا.. استطاعت المشاهد والصور الروائية التي تنقلت ككاميرا تتابع الشخصية/ الصبي داخليًا وخارجيًا على المستويين: النفسي والمادي، وكشفت الغطاء تمامًا، لتملك صك التحول العادل إلى حقد وعداء سافر ينضح بالتجربة المريرة وصور الإقصاء، وما حدث له من إخصاء معنوي، واعتداء وتعذيب ما يقر بالذهن والوعي كمعادلات حقيقية لوجود ناشئ تحت نير احتلال غاشم يفرض طقوس وجوده كما يفرض آلية جديدة للمشاعر وتحولاتها ومرارة التجربة المعيشة التي تنضح، وتؤكد على أن ما بين الأنا/ الوطن، والآخر/ الصهيوني، أسلاكًا شائكة وأسلحة ونيران، وموروثًا من الحقد يتجدد وتندلع نيرانه ولا يستقيم لها حس فطري في التعامل مع النزعات الشعورية الإنسانية في مقابل تداعيات نكبة تتباين صورها في العديد من النماذج السردية شعرًا ونثرًا.. ولن تنتهي آثارها إلا بالحرية واستعادة الوطن السليب، وهو ما أكدت عليه الرواية!!

لقد أفسحت الرواية المجال لصوت الطفل (أحمد) الذي يخطو نحو المراهقة، كي يصور الآخر اليهودي (ميرا) عبر مشاعر إيجابية، تحاول أن تنأى عن العداء، وقد تعمدت الكاتبة أن تجعل هذه المشاعر تتجاوز السياق الواقعي البائس الذي يحيط بالشخصيات لكن هذا السياق لن يستطيع أن يعيش معزولا عن السياق التاريخي الملطخ بالعدوان الصهيوني، مما يقهر الإنسان العربي، ويمنع تطور مشاعره الإيجابية تجاه الآخر المستوطن إذ ينتزعه من عالم الجمال (الشعر، الرسم، الموسيقى) إلى عالم الحقد، فينتزعه بالتالي من الحياة، ليقذف به في وجه الموت[8].


[1]  ربيع حار – رواية –  سحر خليفة – روايات الهلال – العدد 668 – 2004 – ص20

[2]  الرواية ص32

[3]  الرواية ص34

[4]  الرواية ص80

[5]  الرواية ص89

[6]  الرواية ص94

[7]  الرواية ص145/146

[8]  إشكالية الأنا والآخر – د. ماجدة حمود – عالم المعرفة – مارس 2013

أدب سياسة

عن الكاتب

محمد عطية محمود