استوقفتني هذه الفقرة ملياً لما صنعته من ربط زمني لافت بين محاولات الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل واعترف الرئيس الأمريكي “هاري ترومان” عام 1948 بدولة إسرائيل، فكم كانت الرعاية الأمريكية مطلقة للمشروع الصهيوني منذ بدايته، إذ تزامن مع اعتراف “ترومان” بدولة إسرائيل رفض كل من بريطانيا وأمريكا بيع السلاح للعرب، ما دلل على نوايا كلتا الدولتين ومناصرتهما لليهود، خاصة بعد أن جاءت هدنة “حزيران” لتلقي بظلالها الثقيلة على الموقف العربي عندما خرق اليهود أحكام الهدنة وواصلوا التسليح ضاربين عرض الحائط بمراقبي هيئة الأمم المتحدة، بينما التزم العرب بأحكام الهدنة لتكتمل هزيمتهم تحت عباءة الخداع الصهيوني المُعتاد.
وعلى متن شاحنة نرويجية مُتجِهة نحو البصرة بدأت جولة “غريزوولد”، التي لم تكن جولة سهلة على الإطلاق.. يكفى جواز سفره الأمريكي، الذى سبب له الكثير من المتاعب، فكان يحُظَر على حامله النزول بالأراضي العربية نظراً للانطباعات السيئة، التي تركها المراسلون الأمريكيون والأوروبيون لدى العرب بسبب تغطياتهم الصحفية الجائرة للأحداث. وقد وقع اختياره على هذه الشاحنة تحديداً نظراً لتوقفها-“ترانزيت”- في مصر لمدة أسبوعين، وهي الفرصة التي أراد من خلالها رؤية “حرب فلسطين” بعيون مصرية، حيث يقول: “كانت تمتلئ القاهرة والإسكندرية باليهود ولم يكن لديهم أية متاعب تُذكَر مع الحكومة المصرية، حتى تبدل الحال في مستهل الحرب الفلسطينية واعتقلت مصر بضعة ألاف من اليهود، معظمهم أعضاء بمنظمات صهيونية أو ممن كان بحوزتهم أسلحة، فيما شددت المراقبة على ميناء الإسكندرية، وتحديداً على الشاحنات الأوروبية والأمريكية للارتياب في تهريبها الأسلحة والذخائر إلى إسرائيل عبر الموانئ المصرية”
والواقع لم تكن “مصر” محطة سهلة، بل كانت زاخرة بالقراءات، وعندما توقفت الباخرة أربعة أيام في “بورسودان”، وجدها “غريزوولد” فرصة نادرة لاستعراض مشاهداته في كل من الإسكندرية والقاهرة وبورسعيد والقنطرة والعريش. ومن بين أهم التدوينات التي سجلها عدم تعاطف معظم اليهود المصريين مع المشروع الصهيوني، وقناعتهم بأن الحركة الصهيونية سوف تنتهي بكارثة تصيب اليهود أينما وحيثما وجدوا.
وعلى بعد 170 ميلاً من العريش ومنها إلى غزة، كان هناك مئات النازحين العالقين بالمخابئ، الذين أمطرتهم القوات الإسرائيلية بوابِل من الغارات الجوية بمساعدة فرق الاستطلاع والتجسس، ما تسبب في شل حركة القوات المصرية في غزة. وفي إشارة لها أهميتها و دلالتها يقول “غريزوولد”: “لم تكن هزيمة القوات المصرية في غزة سوى واحدة من الفواجع، التي مُنيِت بها الجيوش العربية، رغم كونها كفيلة بإلقاء الإسرائيليين في البحر المتوسط بعد عشرة أيام فقط من اندلاع الحرب لو نفذت خطتها، التي كانت تقضي بتقدم القوات السورية واللبنانية من الشمال والقوات المصرية من الجنوب، وفي الوقت نفسه يزحف الجيش الأردني من الشرق في اتجاه نقطة عند الساحل بين حيفا وتل أبيب، أما في الشمال الشرقي كانت مهمة القوات العراقية أن تعبر نهري اليرموك والأردن وتنتشر على شكل مروحي ابتغاء القضاء على مقاومة العدو في المناطق المطوقة أو المعزولة.. التزمت مصر بهذه الخطة وكذلك الأردن حتى بلغت القوات الأردنية نقطة على بعد ميلين فقط من البحر المتوسط، لكنها تراجعت باللحظة الأخيرة، ربما بضغط بريطاني، فيما لم تقم القوات السورية بأكثر من مناورات حول المواقع الإسرائيلية، كما لم تترك القوات اللبنانية مواقعها الأصلية، أما القوات العراقية فكانت عالقة ما بين ضغط بريطانيا وبين رغبتها في معاونة حلفائها العرب، ومن ثَم لم تصل إلى ساحة القتال إلا بعد أن كانت لحظة النصر قد ماتت بالفعل”
واصل غزيزوولد رصده وتسجيله لمحطاته على خط القتال، حيث انطلقت الباخرة في مياه البحر الأحمر وصولاً إلى مضيق هرمز ومنه إلى “العراق”، ليقضي ثلاثة أسابيع في “البصرة” كانت ما بين مكاتب دائرة التحقيقات الجنائية ووزارة الدفاع العراقية حتى تُجيز له استخدام الكاميرا، التي استجلبها وكذلك كي تمنحه ترخيصاً للالتحاق بالقوات العراقية على الجبهة.. لم تكن الأوضاع – كما رأى – في صالح العرب، مما أعاق قدرتهم على الحشد الدعائي والإعلامي لقضيتهم، رغم سعيهم لإنشاء مؤسسة صغيرة في واشنطن ونيويورك عُرفت باسم “مكتب المعلومات العربي”، لكنها كانت مؤسسة عديمة الجدوى تفتقر إلى المال والاحترافية في مواجهة قياصرة الدعاية الصهيونية الخبيثة وما صعب مهمتهم أكثر عدم درايتهم الكافية بما يدور داخل المطبخ الأمريكي. وبعد أن حصل “غريزوولد” على ترخيص وزارة الدفاع العراقية للذهاب إلى الجبهة، كانت أعداد اللاجئين قد تضاعفت شرقي الأردن خلال بضعة أسابيع بعد مذبحة دير ياسين، حيث تدفق ما يقرب من 400 ألف لاجئ عربي من فلسطين إلى الحدود الأردنية والمصرية والسورية، حيث يروي كيف تعامل العرب اللاجئون مع كل ما توافر لديهم من أمكنة تأويهم من عراء التهجير، فإذا بهم يسكنون مغاور الوحوش والهياكل القديمة في الصحاري، فتبدو ممارساتهم الحياتية تلقائية يسيرة كـ “ثمرة” من ثمار البراعة البائسة في التعاطي مع الواقع المرير.
وفي طريقه إلى الأردن وصولاً إلى مقر القيادة العليا للفرقة العربية حاول “غريزوولد” أن يستوضح مدى صحة الأنباء، التي ترددت حول انسحاب القوات الأردنية بعد هزائمها المتكررة أمام الإسرائيليين، لكنه لم يصل للأسباب الحقيقة خلف تراجع القوات الأردنية في اللحظات الأخيرة، ليتوجه بعد ذلك إلى منطقة “المثلث العربي”، التي طوقتها الجيوش العربية المحيطة بطول كرم وجنين ونابلس.
ثمة أشياء كثيرة تجري في هذه البقعة، حيث بلغت المصاعب أشدها نظراً لاستفادة الإسرائيليين من هزائم القوات المصرية في الجنوب، مما جعلهم يحكمون قبضتهم على الحدود السورية والأردنية في موازاة الانحناءة الجنوبية الشرقية من بحيرة “طبريا”، فيما لم يكُف الصهاينة يوماً عن خرق أحكام الهدنة، فضلاً عن تفوقهم كماً وكيفاً على القوات العربية بفضل الإمدادات والمساعدات التي حصلوا عليها من دول أوروبا الشرقية والغربية والولايات المتحدة، ومن ثَم سيطر اليهود على المنطقة جواً.
لم تكن الدبابات العراقية قادرة على الصمود أمام دبابات “شيرمان” الإسرائيلية، فيما توالت الإخفاقات العربية، بسبب تعذُر توحيد السلاح العربي والنقص الحاد في الذخائر، فضلاً عن الدور الدنئ، الذى لعبته حرب العصابات لبتر أوصال المقاومة العربية، التي لم تتوقف رغم كل بوادر الهزيمة. في تلك الأثناء توالت عمليات مقاومة بقيادة “فوزى القاوقجى” – أحد المناضلين اللبنانيين – حيث أبلوا بلاءً حسناً في مواقع قريبة من الناصرة وجابت القوات الباسلة أرجاء فلسطين الشمالية بدءًا من الحدود اللبنانية وصولاً إلى حيفا، إلا أن نقص السلاح الجوي ألحق بهم الهزيمة في النهاية بعد أن ظلّوا – لبضعة أسابيع أعقبت الهدنة- يستبسلون في حماية منطقة “المثلث العربي”.
كما لقي الصهاينة تأييداً واضحاً آنذاك من مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، الذي كان يرأس مجلس الأمن أيضاً وهو السيناتور “أوستن”، الذي حال بين الدول الأخرى وبين إدانة إسرائيل لخرقها المتكرر اتفاقيات ما قبل الهدنة، حيث سبق لليهود استغلال هدنة “تشرين” واحتلالهم “النقب” خارقين بذلك أحكام مشروع “برنادوت”، فلم يتورع “أوستن” عن معارضة حكومته إذا ما تعلق الأمر باقتطاع أراض من رقعة الدولة الإسرائيلية المزعومة و رهَن ذلك بموافقة إسرائيل نفسها، مما أعطى اليهود الضوء الأخضر لتخطي كل الحواجز الأخلاقية والقانونية الدولية لضم أكبر عدد ممكن من الأراضي العربية داخل دولتهم السرطانية النَهِمة. والواقع لم يكن شيء يردعهم عن مواصلة مشروعهم الاستيطاني سوى ما يلاقونه من مقاومة عربية تم تجريدها من التأييد، حتى إذا تقهقروا في بعض الأحيان رفعوا رايات الشكوى إلى أمريكا وهيئة الأمم المتحدة، وبناءً عليه تقدم كثير من المراقبين الدوليين في لجنة الهدنة المختلطة بالاستقالة بعد أن تعذر عليهم العمل في مثل هذه الأجواء.
كان الهجوم على “جنين” بمثابة آخر تهديد حقيقي للمثلث العربي، حيث وقع تحت جناح الظلام شأنه شأن غالبية الهجمات الصهيونية الغادِرة، إلا أن الظلام غدر باليهود هذه المرة، ليخرجوا منها مطأطئي الرؤوس بعد أن اشتبكوا مع القوات العراقية، لكنهم أعادوا المحاولة مرة أخرى بعدها ببضعة أسابيع، كما شنوا هجوماً على العقبة لتوسيع رقعة مكاسبهم، حيث استولى عليها اليهود بعد أسبوعين من توقيعهم الهدنة مع مصر، ثم أغاروا على قرية “العوجة” مُنعَطفين نحو الطريق المؤدي إلى غزة، واتجهوا شرقاً نحو خليج العقبة مُعتدين بذلك على الحدود المصرية، كما دخلوا قرية “أم رشرش” ثم اقتربوا من “وادي عُربة”، وتابعوا زحفهم حيث قامت القيادة العربية في عَمان بجمع حرس الحدود من جميع المواقع المجاورة للعقبة، وقامت الصواريخ العربية بقصف الحامية الإسرائيلية، إلا أن الطيارات البريطانية قد وصلت في الوقت المناسب لنصرة الصهاينة.
لقد اكتنف معركة العقبة الكثير من الأسرار، حيث بدا من أعداد القوات الإسرائيلية أنها مجرد فرق استطلاع.. أما المناورة، التي قامت بها، فكانت بهدف قطع الإمدادات الوافِدة من عَمان إلى العقبة، وكذلك أرادت الاستيلاء على العقبة، وإكراه أهلها على الاستسلام، ليكونوا بذلك قد نجحوا في فرض سياسة “الأمر الواقع”، حيث أدركت الحكومة الإسرائيلية أن مواجهة العالم بـ “أمر واقع” تُشكِل أكثر من نصف معركتها الدبلوماسية، فيما تنحصر مهمة الأمم المتحدة الرئيسية بعد ذلك في كونها مجرد “ختم” مطاطي يُصدِق على هذا الواقع.
وبعد أن عقدت مصر الهُدنة مع إسرائيل أخذت التطورات السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط تضع العرب في موقف حرج، مما اضطر الأردن وسوريا ولبنان إلى قبول الهدنة، وسرعان ما تكشف بعدها أن إسرائيل لا عهد لها ولن تعتزم احترام أحكام الهدنة، ثم توالت بعدها الخروقات الإسرائيلية على نحو متصل وتوحشت رغباتهم الاستعمارية حتى راحوا يضموا إليهم الأراضي بمختلف الحجج والذرائع، وكانت هذه الاعتداءات بالكثرة التي يصعب حصرها، فيما لم تكن الاحتجاجات العربية تثير سوى الاستخفاف والاستهتار من جانب حكام تل أبيب، حيث يقول “غريزوولد”: “لم يكن باستطاعة إسرائيل خداع الأشخاص القريبين من مسرح الأحداث، حيث صار المراقبون آنذاك من أشد الرافضين للصهيونية، لكن السياسة أخرست الألسن كما العادة”.
ومن بين أبشع اعتداءات الصهاينة ضد العرب، يسرد “غريزوولد” ما ارتكبته شركة “تجفيف بحيرة الحولة” من تعد جائر على الممتلكات العربية، إذ تقع بحيرة “الحولة” في الطرف الشمالي الأقصى من وادي عُربَة، حيث سعت إسرائيل إلى تجفيف أو تحويل مجرى الينابيع العذبة في بحيرة “الحولة”، للعمل على زيادة نسبة المواد القلوية في تربة الأردن الأدنى، فتغدو الأراضي التي تتميز بخصوبتها الشديدة، أراض جرداء مُجدبة، وهو الهدف الذي رمى إليه لصوص “الأرض” حتى يهجرها ساكنيها، فيهرع هؤلاء المغتصبون إلى الأراضي القاحلة ويحتلونها ثم يفتحوا سدودهم لتستعيد الأرض خصوبتها ولكن تحت سلطانهم، فيما احتجت الأردن مِراراً على هذه المحاولات الملتوية، إلا أن احتجاجاتها لم تحرك ساكناً، حيث باشرت الشركة أعمالها في البحيرة بذريعة مكافحة مرض الملاريا، بينما المخطط يعلمه الجميع وهو تعزيز الكيان الصهيوني لإمكانياته الزراعية وتغذية مشروعه الاستيطاني على نطاق أوسع.
اِختتم “غريزوولد” كتابه بالفصل التاسع المُعنوَن بـ “إسرائيل..سرطان”، قائلاً: “كانت الجيوش العربية تتمتع بروح وثّابة، لكنها عانت نقصاً حاداً في الموارد.. ومن ثَم أُقحِمَت إسرائيل ظلماً وعدواناً كـ “سرطان” في قلب الشرق الأوسط، إلا إنها لا تستطيع أن تحيا للأبد على حساب جيرانها ما دامت لا تملك في ذاتها مقومات الحياة، فيبدو الوضع عجيباً إلى حد متطرف، عندما اُبتليت فلسطين – وهي منذ القدم بلد عربي -بذلك الشعب الأجنبي العدواني.. شعب عالة على الأموال الأجنبية، التي ترده من وراء البحار، ولكن من المؤكد أن إسرائيل لن تُعمِر طويلاً وإذا ما سُمِحَ لها بذلك، سيكون بقاؤها على قيد الحياة نبوءة شريرة بكل المقاييس”.
وبهذا التوصيف الدقيق، نجح “غريزوولد” إلى حد كبير في تشخيص الداء، الذي حل بالعرب منذ نكبة 1948، والذي لم نبرأ منه حتى الآن.. فعلى الرغم من مُضي ما يقرب من 70 عاماً على ديمومة هذا السرطان بالجسد العربي، إلا أن التوقع الأكثر منطقية هو حتمية موت هذا الكيان الدخيل مهما بلغت قوته وبقاءه.. وعلينا ألا نسمح لهؤلاء اللصوص بالنيل من أراوحنا “الوثابة”، التي تحدث عنها “غريزوولد”، إذ لم تكتف الصهيونية باستخدام الكارت المادي كوسيلة للاستقواء، فهي تعلم أن الغلبة لنا والوقت ضدها لا ضدنا، لذلك قامرت على شيء أكثر أهمية.. قامرت على الهِمم كي تًطفِئها، وأشعلت الفتن، وغدت تتابعها في نشوة شيطانية.. فإذا ما رَجونا شفاء من “سرطان” الصهيونية، علينا باستعادة تلك “الروح” الوثابة، التي ناضلنا بها -في السابق- حتى الرمق الأخير، وعلينا الآن ألا نتناسى من هم أعداؤنا الأزليون..؟!