لا يسعى هذا المقال لتحليل ظاهرة قمع الصالونات الثقافية ومحاربتها بقدر سعيه لرصد وتوثيق هذه الظاهرة ، عل باحثاً مجتهداً أو عالم اجتماع سياسي يتحفنا مستقبلا بتحليل عميق يجيب عن سؤال : لماذا تخشى سلطة ما من الكِتاب إلى هذا الدرجة الموسوسة التي تجعلها تترك عملها الأهم وتتفرغ لمحاربة فتية يقرؤونه في مكان ما من السلطنة ( مسقط ، صحار ، صحم ، المصنعة ، سمائل ، بدية ، الخ ) أو يناقشون موضوعاً ثقافيا ينشدون منه المساهمة في تطوير وطنهم للأفضل .
بادئ ذي بدء سأقول إنني لم أتفاجأ بخبر إلغاء الجلسة التدشينية لصالون “تنوير” الثقافي في صحم مساء أمس الأول الجمعة ، فما هو سوى حلقة في سلسلة طويلة في لعبة القط والفأر بين الشباب من جهة ، وبين جهات نافذة في الحكومة تخشى من “تنوير” هؤلاء الشباب حتى وإن كان بالحديث عن رواية فازت بأكبر جائزة عربية وقتلتها الصالونات الأدبية نقاشا وتحليلا ، بما في ذلك اللجنة الوطنية للشباب (الجهة التابعة للحكومة) التي استضافت مؤلف الرواية في الملتقى الأدبي بخصب العام الماضي .
ليست المشكلة في الرواية إذن بل في الجهة المنظمة للجلسة الثقافية، فكل ما يتعلق بتنوير الشباب لا ينبغي أن تقوم به إلا الحكومة، التي وحدها تعرف كل شيء، ووحدها من يقرر ما هو صالح لدخول عقول الشباب وما هو غير صالح ، ولا عزاء لمؤسسات المجتمع المدني الملهية الآن فقط بتتبع أخبار الولادة المتعسرة جدا – والمستمرة منذ سنوات – لقوانين الجمعيات والمطبوعات والنشر وحماية المستهلك ، تلك القوانين التي يشرف على توليدها قابلات يصح فيها قول المتنبي “فيك الخصام، وأنت الخصم والحكم”. ولو أن فيلاً حمل بهذه القوانين – والفيل كما هو معروف صاحب أطول مدة حمل في الكائنات – لكان قد أنجب حتى اليوم خمسة أفيال .
يعيدني هذا المنع سبعة أشهر إلى الوراء ليذكرني بمنع مماثل لجلسة أعلن صالون “القراءة نور وبصيرة” عن إقامتها في مقهى “مود كافيه” بمدينة السلطان قابوس ليلة 28 ديسمبر 2013 للدكتور غانم النجار رئيس مجلس أمناء الصندوق العربي لحقوق الإنسان بعنوان “حقوق الإنسان،المبادئ، التجربة، الحياة” ، ثم اضطر منظموها (بعد الاعتذار “غير المفاجئ” للمقهى ) إلى تغيير المكان إلى فندق رمادا ، وعندما فشلت الجهات المانعة في منعها من “رمادا” لجأت إلى إطفاء الكهرباء عن قاعة الأمسية وهي في منتصفها !!! .. هذا التصرف الذي أقل ما يوصف به أنه لا يليق بالضيف ولا بالحضور لم يكن موجها ضد النجار بل ضد المبادرة الشبابية غير الملتفة بعباءة الحكومة ، بدليل أن الضيف نظمت له بعد ذلك بثلاثة أيام أمسية مماثلة بعنوان آخر “هل حقوق الإنسان غربية؟” في النادي الثقافي ( الواجهة الثقافية للحكومة وان ادعى أحيانا أنه مستقل ).
بعد ذلك بيوم واحد ، أي مساء الأول من يناير 2014 كان مقررا تدشين صالون “دما” الثقافي الذي أعلن عنه الكاتب زكريا المحرمي ليكون صالونا وسطيا كما يقول، ولكننا فوجئنا بحساب الصالون الوليد في تويتر يعلن في تغريدة له في صباح اليوم نفسه أنه “لأمر خارج عن إرادتنا نعتذر لكم جميعا عن تأجيل أمسية التدشين المزمع إقامتها الليلة، على أمل إقامتها في وقت قريب” ، ولكن بعد سبعة أشهر من هذه التغريدة لا يبدو أن الوقت قريب ، لأن الأمر بالفعل خارج عن إرادتنا جميعا .
بعد ذلك بشهرين ، وتحديدا ليلة الجمعة 28 فبراير 2014 تلقى منظمو “صالون صحار الثقافي” قبل ساعة من جلسة مناقشة كتاب المفكر نعوم تشومسكي “السيطرة على الإعلام” اعتذارا “غير مفاجئ” من مطعم الدهو بصحار “بعد تلقيه اتصالا من جهات عليا” ، ومنذ ذلك الاتصال لم تقم لصالون صحار الثقافي قائمة حتى لحظة كتابة هذه السطور
.. لم تخبر “الجهات العليا” المطعم ولا منظمي الصالون عن الأسباب الخطيرة وراء المنع ، وان كان المرء يستطيع أن يحدس أن عنوان الكتاب مخيف : السيطرة على الإعلام ؟! .. ماذا؟! .. هل هناك أحد غير الحكومة يحاول السيطرة على الإعلام ؟ ألا يكفي الإعلام الالكتروني الذي بات الشباب يهيمنون عليه ؟! .. ومع هذا لا يظنن ظان أن عيون هذه “الجهات العليا” غافلة عن الإعلام الالكتروني ، فها هي تمنع الأمسية التي أعلن صالون سمائل الثقافي عن إقامتها مساء الخميس 29 أغسطس 2013 للدكتور المعتصم البهلاني عن “واقع وتطلعات الإعلام الالكتروني في عُمان”
، والتي كان مقرراً أن يحتضنها مقهى قصر اسطنبول في سمائل
، وهو المنع الذي جاء بعد نحو شهرين من منع أمسية “شبكة المصنعة الثقافية” لمناقشة كتاب “الربيع العُماني” للكاتب سعيد الهاشمي والتي كانت مقررة مساء الأحد 7 يوليو 2013 ثم ألغيت، بل وحذفت الشبكة كل ما يتعلق بها من حسابها في تويتر.
قد يجادل بعض المدافعين عن قرارات المنع بأن هذه المبادرات الشبابية غير مرخصة ، فلماذا لا تأخذ ترخيصها من الحكومة ويكون عملها في النور ووفق القوانين المرعية .. وهناك ردان على هذا الطرح الذي لا يخلو من وجاهة (في ظاهره على الأقل) : الأول : أين هي القوانين المرعية والفيل لم يلد بعد ، ولا يبدو أنه سيلد بسهولة .. بينما ما زالت القوانين القديمة تتفنن في وضع العراقيل أمام الشباب . أما الثاني فان الفعاليات الثقافية المنظمة من قبل جهات حكومية مرخصة لم تسلم هي الأخرى من المنع ، وليس ببعيد هذان المثالان من جامعة السلطان قابوس : الأول إلغاء أمسية مسابقة “شاركني ما قرأت” المنظمة من قبل جماعة “صوت التنمية” بالجامعة وكان مقرراً لها أن تقام مساء الأحد 11 مايو 2014 ، والتي ألغيت بشكل مفاجئ في صباح يوم إقامتها وبدون إبداء الأسباب ،
وقبل ذلك بأيام قليلة أيضا ألغت جامعة السلطان قابوس أمسية للمدون معاوية الرواحي عن الإعلام البديل قبل موعدها بفترة قصيرة ، رغم أنها هي التي دعته ! .
إن هذا الكم الوافر من المنع خلال عام واحد فقط لفعاليات ثقافية قاسمها المشترك الأعلى هو الكتاب والتنوير لَيدلُّ على أن هذه “الجهات العُليا” لم تسمع بعد بمقولة آينشتين عن أنه ليس من الحصافة أبدا تجريب نفس المقدمات دائما ثم انتظار نتائج جديدة ومختلفة . ولأن الشباب لديه طاقات يحاول تفجيرها والتعبير عن نفسه بما لديه من إمكانيات ومواهب فانه سيحاول دائما ابتكار طرق جديدة لهذا التعبير ، وحالة الشد والجذب هذه بين الشباب من جهة ، والسلطات المانعة من جهة أخرى ، هي هدر لطاقات الجميع ، فلا الوطن استفاد من طاقات الشباب ، ولا تلك “الجهات العليا” تفرغت لمهامها الأهم والأسمى من مجرد ملاحقة فتية يقرؤون كتابا .