المشهد الثقافي في سلطنة عمان و معوقات التطور! 1/2

الواقع الثقافي في الوطن العربي لا يختلف كثيرا عن الواقع السياسي إن لم يكن ظلا ملازما له. فالوطن العربي بما يحفل به من ضعف جراء المحسوبيات والانتماءات والتوجهات السياسية يجعل أقلية غير مستوفية الشروط تتحكم في الأكثرية. وهذا النوع من التحكم يُنتج أسسا فارغة من أية معايير عادلة أو حقة للتمايز بين الأفراد باعتباره صدى لطغيان الدكتاتورية على معايير الديمقراطية و احترام الرأي الآخر. و بالنتيجة تتغلب صفات كالتزلف و الأمعية على الكفاءة و الأهلية ليؤدي في النهاية إلى تقديم بطانة الدولة أو المتزلفين غير مستوفي الشروط على آخرين أكفأ و أكثر أهلية، ناهيك عن التأثيرات التي تفرزها ظاهرة إقصاء ثقافة الآخر في بعض تلك الدول أو سيادة الاحتكار الأيديولوجي الذي يختصر مختلف وجهات النظر ضمن وجهة نظر واحدة. هذه الصورة القاتمة هي السوس الذي ينخر في التقدم الثقافي في بعض الدول العربية رغم ظاهرة النشر الكبيرة لنتاجات معظمها خاوية من أي إبداع. ومن الممكن تلخيص هذا الواقع الثقافي في عناصر أو نقاط ثلاث و هي: 1) بروز جماعة الأصدقاء أو ما تعرف بـ “الشللية”. 2) ضيق الأفق الثقافي الذي يبعد فكر أو معتقدات وتاريخ الأقليات داخل الوطن الواحد. 3) حصر الدور الثقافي بما يشمله من فرص و إمكانات في أيدي أقلية تمثل اتجاه الدولة وسياستها (جماعات السلطة).

تلمس هذه النقاط ليس بالأمر الشاق في المشهد الثقافي في الدول العربية إلا أن الحديث عنه لا يخلو من المحظورات التي قد تصيب بشظاياها الأديب أو المثقف بطرق شتى. غير أن طرح بعض الأمثلة من التجربة الشخصية للكاتب أو الأديب في هذا الإطار قد تقلل من تأثير تلك الشظايا التي قد تنال منه في مسيرته الثقافية، وقد تجعلها عديمة التأثير انطلاقا من المثل العربي القائل “لا يضر الشاه سلخها بعد ذبحها”. وفي هذه الورقة سوف أحاول الإضاءة على بعض النقاط العامة التي تعرقل تطور المشهد الثقافي في سلطنة عمان. وهذه الإضاءة السريعة نتاج ملاحظات شخصية متصلة بتجارب ذاتية بالإضافة الى بعض القراءات وأحاديث مع مثقفين آخرين.

قبل عامين تقريبا صدرت لي أول رواية تحمل عنوان “الصيحة”. وهذه الرواية هي جزء من مشواري في المجال الأدبي الذي بدأ منذ الثمانينات من القرن المنصرم. فقد بدأتُ ككاتبة قصص قصيرة ثم واصلت في مجال أدب الأطفال إلى جانب مقالات تربوية و رؤى على السياسة التعليمية و القضايا الإجتماعية التي تواصلت مع صدور “الصيحة”. و نعرض للقارئ الكريم نبذة عن الرواية بإيجاز :

تناولت رواية الصيحة ظاهرة غريبة غيرت حياة أسرة طالبين جامعيين قادمين إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع أطفالهما الأربعة من أجل نيل درجة الدكتوراه. و بسبب تلك الظاهرة استجدت الكثير من الأمور في حياة الكثيرين من الناس بغض النظر عن دياناتهم أو جنسياتهم، لكن هذين الطالبين كانت لهما وقفات عديدة مليئة بالكثير من المحن والتحديات. فالظاهرة الغريبة التي سمعها كل من في الشرق والغرب كانت بداية لأحداث مدهشة وغريبة شهدتها بشكل عام تلك المدينة الجامعية الصغيرة “لوجان” الواقعة في ولاية “يوتا”.

لم تكن الصيحة بعيدة عن عنوانها، فقد أعانتني على اكتشاف الواقع المحيط، إذ كانت المؤشر الذي أسهم في معرفتي و فهمي للساحة الثقافية في سلطنة عمان و إدراك المكونات التي تديرها كما هو الحال في قطاعات مختلفة من الحياة. و في ضوء تجربتي الثقافية و الأدبية في سلطنة عمان سأحاول بكل شفافية الإضاءة على بعض التفاصيل المتعلقة بالحياة الثقافية في السلطنة وفق أسلوب منهجي يتخذ من العناصر الثلاثة التي سبق ذكرها و هي: 1) الشلليه، 2) ضيق الافق، 3) جماعات السلطة ، أساسا لطرح ما هو متعلق بتجربتي الثقافية. و سأستشهد في الوقت ذاته بما تم الإشارة اليه من واقع دول عربية أخرى. فواقع السلطنة لا يختلف كثيرا عن واقع تلك الدول بل يمكن القول بأن السلطنة أصبحت صدى لتأكيد انزلاق الوضع الثقافي العربي الى منحنيات غير مرغوبة.

أولا: الشللية.
يفرق المثقفون بين نوعين من ظاهرة المجموعات أو التكتلات في النشاط الأدبي والثقافي اللذين يمكن عرضهما ضمن المصطلحين التاليين: “الشللية” و “فريق العمل الجماعي”. فيوضح الكاتب محمد الغيطي مدير الإذاعة و التلفزيون في مصر أن هذين المصطلحين مختلفان من حيث فعاليتهما و تأثيرهما على الساحة الأدبية. فيستحضر مثالا لمصطلح فريق العمل و هو “جماعة أبولو” التي كانت من أهدافها السمو بالشعر العربي وتجديده. و يرجع الفضل في تأسيس هذه الجماعة إلى زكي أبو شادي ومطران خليل مطران وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه وزكي مبارك وأحمد محرم. و هي تختلف عن تلك التي تعاني منها معظم دول العالم الثالث و التي تعرف بمصلطح “الشللية”(1). كذلك تؤكد الأستاذة سعاد العنزي أن ظاهرة الشللية تتجلى في شبكة علاقات اجتماعية تتكون بين مجموعة من الأصدقاء و الزملاء بعد الاقتناع بمجهودهم و هذه الظاهرة تختلف عما تسميها “بالشللية البغيضة التي تعني أنا و مجموعتي الأدبية فقط”(2).
ظاهرة الشللية موجودة في كل مكان، و هذا ما أيدته المقابلات و المقالات المنشورة حول وضع الشللية في الدول العربية. و يذكر لنا الكاتب حسن الأشرف في مقاله: “مبدعون يشتكون من ظاهرة “الشللية” التي تخترق الأدب المغربي موضحا “أن أدباء المغاربة يشتكون من ظاهرة المحاباة و الشللية” التي تخترق العلاقات بين الكثير من النقاد ببعض الكُتّاب والمبدعين، خاصة العنصر النسائي منهم، الأمر الذي يؤثر سلباً على الوضع الثقافي والأدبي بالبلاد”(3). و في هذا الصدد فإنه يثير تساؤلا حول ظهور أسماء لكتاب و كاتبات و الاحتفاء بهم رغم محدودية إبداعهم. و قد أطلق عليهم مسمى “منظمو الحفلات”. يتفق الشاعر ماجد يوسف، رئيس اللجنة الشعرية بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر، حول تأثير ظاهرة الشللية التي يرى فيها أنها “معيار العلاقات الشخصية، وليس الإبداع، حيث يجامل الجميع بعضهم البعض…”(4). أما عن تأثير ظاهرة الشللية في الوطن العربي فيستشهد الكاتب عبدالرحمن العكيمي من المملكة العربية السعودية في مقاله: “الروائي عواض العصيمي: الشللـيـة تقتـل الإبـداع” بكلام الروائي العيصيمي في أن “البؤر المتجزئة والشللية تقف مثل حد السكين من المشهد الإبداعي حيث أن لكل شلة برامجها وملتقياتها…”. و كما يشير الى تأثير العلاقات الشخصية الحميمة على الشللية و التي تؤدي بالتالي إلى الدعاية لكاتب ما على أنه أهم كاتب في البلاد…(5)، و يؤيده في ذلك الكاتب زياد العناني من المملكة الأردنية الهاشمية من خلال مقابلته مع عدد من الكتاب في أن “الشللية الأدبية ظاهرة وجدت لقتل المبدعين المستقلين” حيث يستشهد بقول محمد المشايخ: بـ “أن أخطر الشلل فتكا بالمواهب الواعدة و غير الواعدة هي الشلل التي ترفع لواء الالتزام و الوطنية”(6).

من خلال رصد الوسط الثقافي العماني يمكن ملاحظة عدد من الشلل الرئيسية وأفراد آخرين يعومون وسط التيار (عائمون و ليس سباحون) لأنهم يحتاجون الى مسبار يسندهم لمواصلة المسير. إثنان من تلك الشلل تأتي تحت المظلة الرسمية أما البقية فيمكن تسميتهم بشلل “خارج المظلة الرسمية”. إلا أن هناك نوعا من الترابط و تبادل المصالح بين الشلل من جهة و بينهم و بين العائمين من حولهم من جهة أخرى. و هذه المصالح تظهر بشكل كبير في تقاسم حضور الفعاليات الثقافية و إدارتها و السفرات الخارجية و اللجان الوطنية و غيرها. و تظل بعض الأقلام المبدعة مهمشة لأنها ترى في الشللية كما يوضح الدكتور أحمد زايد أنها “تأخذ منك باليسرى شخصيتك و استقلاليتك، و فيها تظل كما أنت، و يظل مستواك العلمي و الإبداعي راكدا كالماء و تبقى أنت، بشهادة الكثيرين شخصية انتهازية متسلقة”(7). لهذا فالمستقلون يعيشون حالة من الإقصاء و الاستبعاد و يتم تجاهل إنتاجاتهم و إصداراتهم. و هذا التجاهل هو أمرٌ معدٍ بين هذه الشلل لأنها لا تريد أن يكون اسمها مقرونا باسم شخص أو أديب مستقل يتجاهله الوسط الأدبي. و هناك الكثير من الأمثلة لهؤلاء الأِمعات الذين يكتفي البعض منهم بلعق ما تبقى من الكعكة. إن آفة الشللية في المشهد الثقافي العماني لها الكثير من الوجوه و ذلك من خلال التسلط على الساحة الأدبية و احتكار الأنشطة و الأعمدة الثقافية و تظهر عند عرض أو كتابة أوراق نقدية أو أدبية. يشير الكاتب أسعد عرابي إلى “ان الأخطر من النصوص المرتبكة البريئة (التي لا تعدو حدود الارتزاق) هي النصوص غير البريئة, التي تمثل جملة من التواطؤات الثقافية..” (8). وهي بلا شك من أبرز الأدوار التي تقوم بها “الشللية البغيضة.”
سنتطرق في الحلقة القادمة إلى العنصرين الآخرين المؤثرين في المشهد الثقافي العماني.. فإلى اللقاء!

المصادر:
1) محمد الغيطي . الشللية الثقافية ..آفة الإبداع. مقابلة مع عدد من المثقفين. دار الإعلام العربية (2012). http://www.albayan.ae/paths/art/2012-05-20-1.1652898
http://www.albayan.ae/paths/art/2012-05-20-1.1652898
2) سعاد العنزي. نوافذ 2013. http://islamtoday.net/nawafeth/artshow-91-189091.htm
3) حسن الأشرف. مبدعون يشتكون من ظاهرة الشللية التي تخترق الأدب المغربي. 2010. http://www.alarabiya.net/articles/2010/12/13/129482.html.
4) الشاعر ماجد يوسف. الشللية الثقافية ..آفة الإبداع. مقابلة مع عدد من المثقفين. دار الإعلام العربية (2012). http://www.albayan.ae/paths/art/2012-05-20-1.1652898
5) عبدالرحمن العكيمي. الشللية الثقافية ..آفة الإبداع: مقابلة مع عدد من المثقفين. دار الإعلام العربية (2012) http://www.albayan.ae/paths/art/2012-05-20-1.1652898.
6) زياد العناني. مثقفون ومبدعون أردنيون يناقشون سلبيات الشللية الأدبية وإيجابياتها. جريدة الغد (2006). http://www.alghad.com/index.php/article/59994.html
7) أحمد زايد. الشللية الثقافية ..آفة الإبداع: مقابلة مع عدد من المثقفين. دار الإعلام العربية (2012). http://www.albayan.ae/paths/art/2012-05-20-1.1652898
8) أسعد عرابي. الفن العربي المعاصر تاريخ لم يكتب بعد! مجلة العربي(العدد 517 )2001.
http://www.alarabimag.com/Article.asp?Art=7266&ID=155

الثاني والخمسون ثقافة وفكر

عن الكاتب

د. فاطمة أنور اللواتية