عندما رأي زميله قادما و المسدس في يده عرف قصده. فبدأ يقرأ من الكتاب بصوت مسموع قصيدة الشاعر الايرلندي وليم ييتس (انه يتمنى ملابس السموات)(ترجمة هذا الكاتب):
لو كانت عندي ملابس حاكتها السموات
بنور ذهبي و ازرق محفوفات
الملابس الخافتة الزرقاء الغامقات
ملابس الليل و النور و نصف النور
لفرشت هذه الملابس بين يديك:
لكنني فقير لا أملك إلا أحلامي
فرشت لك هذه الأحلام ــــ
خفف الوطء فأحلامي تحت قدميك!
غطى وجه بالكتاب . أطلق برستون الرصاصة على زميله فنفذت من ديوان الشعر إلى الوجه. جريمته ؟ العاطفة و اقتناء مادة تثير الإحساس و العاطفة!
يروي فيلم Equilibrium ، التوازن، عالما مستقبليا في أعقاب حرب عالمية ثالثة حيث تجبر السلطات التي يقودها مستبد يدعى (الأب) جميع السكان كبارا و صغارا على تناول عقار بروزيوم الذي يكبح العاطفة و حيث يسعى كل شخص إلى سلطات الأب بكل شخص لا يتناول جرعته اليومية حتى لو كانت أمه أو كان أبيه. في هذا العالم الذي يجرد الإنسان من أشواقه ليس فقط الدواء إجباري و لكن السلطات تمنع و تصادر كتب الشعر و الأدب و التسجيلات الموسيقية و اللوحات الفنية. لكن رغم هذا القمع العاطفي هناك جماعات مقاومة متخفية في أقبية الضواحي و سراديبها تطاردهم و تدهمهم دوريات الشرطة التي يعد برستون ابرع رجالها فتقتلهم و تحرقهم.
و مثل زميله الذي قتله بدم بارد بدأ برستون يتساءل لماذا يعرض المقاومون أنفسهم للموت في سبيل الإبقاء على العواطف و مقتنيات الإبداع التي تثير العاطفة؟ قاده تساؤله إلى الامتناع عن اخذ جرعته اليومية من البروزيوم. في اليوم التالي حرك مشاعره منظر شروق الشمس. و أخذته الدهشة و هو يستمع إلى احد سنفيونات بتهوفن في قبو سري عثر عليه اثر مداهمة دامية. و جفل عند كل طلقة رصاص أطلقها الشرط على كلاب المقاومين الذين دهموا . بل أخذ معه جروا صغيرا لإنقاذه من القتل الذريع . أخيرا يقع في حب سيدة من المقاومة حكم عليها بالإعدام بعد اكتشاف أنها لا تتناول العقار الكابح للعاطفة. يكتشف بيرسون إنسانيته مرة أخرى. و نكتشف معه إنسانيتنا و حاجة الإنسان إلى العواطف و الأحاسيس. في النهاية ينجح برستون بالتعاون مع المقاومة في إنهاء حكم القمع العاطفي.
— 2 —
هذه العواطف التي تسمح للإنسان بالتأثر بالجمال في اللوحات الفنية و بالجمال في سنفيونات بتهوفن و بالجمال في الشعر العميق هي التي تسمح لنا بالتأثر بالجمال النهائي: الله. ألم يقل صلى الله عليه و سلم ” ان الله جميل يحب الجمال” ؟ و رغم أن القبول العقلي أصل الإيمان إذ لا يثبت الإيمان بدون العقل فلحقيقة الإيمان أبعادا أخرى غير البعد العقلي، أي بعد التصديق، منها الأبعاد القلبية أو الآثار القلبية التي يظهر أثرها حتى على الفسيولوجيا، تأثر الجسد. انظروا إلى قوله تعالى ” اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ” (الزمر: 22). فمن منا حصلت له مثل هذه الخبرة عند سماع القران ؟ أنها خبرة حقيقية لا يمكن تفسيرها تفسيرا ماديا بحتا لكن كثر هم الذين حرموها بسبب ران المادية على القلوب. و لقد أظهرت بضع تجارب سريرية ان قراءة القرآن أو سماعة تحدث ما يسميه علماء النفس والطب النفسي باستجابة الاسترخاء . فدراسة قام بها البروفسور الباكستاني احمد قاضي و زملاؤه وجدوا انخفاضا في ضغط الدم عند الذين استمعوا لقراءة القران و بلوغ نبض القلب إلى المستوى الطبيعي و استرخاء عضلات الجسم . دراسة باكستانية أخرى أجريت في كلية العلامة إقبال للطب في لاهور عن اثر صلاة التهجد على الكآبة استعملت مجموعة اشتغلت بالتهجد و مجموعة ضابطة اشتغلت بأعمال منزلية. و باستعمال (مقياس هاملتون للكآبة) وجد الباحثون أن 25 من 32 في مجموعة الدراسة اظهروا انخفاضا ملحوظا في أعراض الكآبة بينما لم يطرأ أي تحسن على أفراد المجموعة الضابطة. و كل هذا مصداق ما اخبر به الرسول الكريم من أن الذي يستيقظ في الليل و يصلي يصبح نشيطا طيب النفس.أي أن قيام الليل يحسن المزاج. و في هذا السياق يذكر المستشرق البريطاني الراحل آرثر آربري Arberry الذي وضع ترجمة للقران الكريم باللغة الانجليزية
The Koran Interpreted: A Translation يذكر في مقدمة هذه الترجمة انه مرت به محنة و لم يعنه على تجاوزها إلا سماع القرآن.
— 3 —
ثمة شبه بين فيلم (التوازن) و رواية (1984) للروائي البريطاني المشهور جورج اورويل التي نشرها عام 1949. تصور الرواية حياة الناس الكئيبة في نظام شمولي يعتمد على الرقابة و الدعاية لمكافحة التفكير المستقل و إحساس الإنسان بالتفرد. في هذه الأجواء المكئبة يعمل (ونسون سميث) في قسم الدعاية حيث يحرف الوقائع و التاريخ ليتماشيان مع دعاية السلطة. لكن شوقه إلى الحقيقة و النزاهة يقوده إلى التمرد السري و الوقوع في غرام امرأة متفردة مثله ما يلبثا أن يقعا في قبضة (شرطة الأفكار) فالسجن فالتعذيب و إعادة التأهيل لاجتثاث شوقه إلى الحقيقة و النزاهة. و يميل النقاد إلى القول ان اورويل استلهم روايته من نظام ستالين الشمولي في الاتحاد السوفييتي السابق. يكشف كل من فيلم التوازن و رواية 1984 عن عوار النظام الشمولي و أخواته الأنظمة الأمنية التي ليس فقط تشوه الواقع و لكن أيضا تغرب الإنسان و تكبته روحيا، تغرب الإنسان أي تشعره بالغربة: بأنه غريب! و ما هذه الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة العربية (ثورات الربيع العربي) إلا تعبيرا عن أشواق الروح للحقيقة و النزاهة اللذان كبتهما الفساد و الاستبداد سنوات طويلة.
و ليس ثمة خير ختام لهذا المقال عن مقاومة العبودية العاطفية و الروحية من قول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن عمرو بن العاص لما اقتص منه حق المصري غير المسلم الذي ضربه، (ابن عمرو) و هو مسلم،على رأسه: متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ ألا حقا!
* إعلامي عماني في إذاعة و تلفزيون سلطنة عمان منذ عام 1977 و عضو الرابطة الدولية للكتاب العلميين ISWA
