وحدة الخلق والتباين التكاملي

كتب بواسطة هالا مقبل

تتوحد في الإنسان الخصائص الإنسانية من الإدراك والوعي والشعور والبيان في كل مجالات النشاط الإنساني سواء منها ما يتصل بالفكر ، أو السلوك أو السعي في الحاجات ، وإذا قمنا بسبر أغوار النفس الإنسانية  بالكشف والتحليل نجد أن الإنسان هو الإنسان في كل المجتمعات ، وفي كل الأزمنة والأماكن .

والإنسان كائن تجلّت فيه الحقائق الإلهية ، والقدرة الإلهية ابتداء من النطفة وما يتلوها من تطورات في مراحل تكون الجنين  فقد خلقه أطوارا ،  وتتجلى وحدة الخلق الإنساني في أصل الخلق ،  فالأصل واحد ، والتكليف بالعمارة واحد أيضا ، وفي قوله :  ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً” تأكيد أن الناس  بعضُهم مِنْ بعض في أصل التوالد ، والتصور القرآني للنفس الواحدة إنما ينطلق من أعماق ثابتة متمكنة في الفطرة الإنسانية التي جبل الله الناس عليها ، فقد جاء الخطاب  ( يا أيها الناس ) ليشمل جميع أمة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما سيأتي من الزمان ؛ فضمير الخطاب في قوله ( خلقكم ) عائد إلى الناس ،  لئلا يختص بالمسلمين أو أهل الكتاب أو غيرهم ، فلما كان ما بعد هذا النداء جامعا لما يختص به الناس عامة  بين مؤمن وكافر فدعاهم إلى التذكر أن أصلهم واحد . والوحدة في النفس الإنسانية قائمة على أساس عميق يمتد في جذوره إلى أصل الخلق ، ومن الطبيعي أن يمتد هذا الأساس إلى جميع أبعاد التكوين النفسي والعقلي للأفراد فإن هذه البشرية التي صدرت عن إرادة واحدة تتصل في رحم واحدة ، وتلتقي في روابط  واحدة ، وتنبثق من أصل واحد ، وتنتسب إلى نسب واحد ولو تذكر الناس هذه الحقيقة ، لتضاءلت في حسهم كل الفروق الطارئة ،أما فيما يتعلق بالمجتمعات المتباينة فإن لكل وحدة اجتماعية أو حضارية محتواها الإنساني ، بمعنى أنها تتألف من رجال ونساء لهم مشاعرهم ، وتطلعاتهم ، وتأثرهم بما حولهم وتفاعلهم فيما بينهم ، لكنها لا تستكمل معناها – أي الوحدة الاجتماعية – إلا إذا وضعناها ضمن إطار الوحدة الشاملة  ونقصد بالوحدة الشاملة الوحدة الإنسانية ، لأن البشرية والطبيعة الإنسانية  لها خصوصيتها دون بقية المخلوقات ؛ فالمجتمع الإنساني يقوم على منهج واحد ، وتوجه واحد في الأصل والمجتمعات الإنسانية كلها تسعى لتهيئة أمور وقضايا تَسُدُّ من خلالها حاجاتها ، ودوافعها ، كالزواج ، والمال ، والثروة ، والتوالد وغيرها من الحاجات الإنسانية وتنعكس هذه الوحدة في السلوك ، والقيم الإنسانية الأولى التي تتجلى  في وحدة التكليف ، فقد خلق الله البشر لعبادته وحده لا شريك له  وكذلك وحدة المصير والمرجع إلى الله فإن نهاية العباد، ومصيرهم ، ومرجعهم ، ومآلهم إلى الله ، فيحاسبهم ويحصي أعمالهم ويجازيهم  عليها ،  فلا يُستثنى أي إنسان من الموت في الدنيا ، والبعث للحساب على أعماله ، والبشر كلهم سواء في هذا المصير المحتوم ، فوحدة الخلق حقيقة مقدسة  في كل الديانات  .

ووحدة المخلوقين تتضمن أن الخالق واحد ،  وأن القدرات الإنسانية واحدة ، وأن الأصل الذي ترتد إليه كل الشعوب واحد ، فقد  كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً  ، وما الاختلاف في الألوان والأجناس والشعوب إلا من باب الاختلاف التكاملي الناجم عن حكمة إلهية حتى يتحقق التعايش المتبادل بين الأفراد  والجماعات  فهو اختلاف من أجل التكامل الضروري لإعمار الأرض ، لذلك لا يشكل التنوع والاختلاف  تباينا ، بل يمثل تكاملا في الخصوصيات بحيث ينضم بعضها إلى بعض من أجل إنتاج القضايا الكلية في مسار الإنسانية ، والعبرة في هذا الخلق العجيب أن أصله واحد ويخرج هو مختلف الشكل والخصائص .

ولما كانت وحدة الخلق الإنساني حقيقة واقعة لا مجال لإنكارها فإنه يترتب عليها ترسيخ مبدأ المساواة بين أبناء البشرية فلا فوارق ولا عصبيات ولا عبودية ، فالجميغ متساوون في القيمة الإنسانية ، ولا تفاضل إلا في التقوى والعمل الصالح بميزان دقيق موكول إلى الله لأن التقوى محلها القلب والله هو المطلع عليه . وبالتالي فإن الحرية والحياة الكريمة المستقلة حق مشروع لكل مخلوق على هذه الأرض والحياة الحرة الكريمة تنبثق عن النفوس الأبية المؤمنة بقيمتها الإنسانية وقد أثبت التاريخ على مر العصور أن المساواة والعدالة الإنسانية لا ينالها إلا القوي المدرك لحقيقة وجوده وقد فضل الله المؤمن القوي على المؤمن الضعيف ليس من أجل أن يتحكم بالعالم ويغتصب حقوق الضعفاء وإنما هي قوة إيجابية بناءة  داعمة حتى يكون المؤمن قويا في إحقاق الحق وإقامة العدل وتحقيق المساواة.

الرابع والسبعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

هالا مقبل