ملف الاخلاق والاقتصاد

في الفصل الأول من كتابه “الأخلاق في عصر الحداثة السائلة” يتساءل زيجمونت باومان عن الفرص المتوفرة للأخلاق في عالم استهلاكي معولم؟ وهذا التساؤل يأتي في سياق سلسلة عامة طرحها باومان للنظر في مواضيع كثيرة، لم تعد صلبة كما كانت في السابق بل أصبحت سائلة، متحركة، وغير مضمونة العواقب والنتائج في عصر العولمة الذي غيّر الكثير من القيم وجعلها هلامية، فالهُويات، والقيم، والأموال، والبشر وقضاياهم أيضا ً أصبحت سائلة. فهناك قيم بحاجة للمراجعة والحديث عنها بين فترة ٍ وأخرى، ومن ضمنها الإرث المأساوي للقرن العشرين المتمثل في الحربين العالميتين من جهة، والهولوكوست والإبادات العرقية في مختلف بقاع العالم من الجهة الأخرى، وصعود القومية الاشتراكية (النازية)، وعودة الديكتاتوريات في الكثير من الأنظمة السياسية التي قررت شعوبها في فترة معينة الذهاب لنظام حكم ديمقراطي. وهذا يعني بأن الكثير من المفاهيم التي نعتقد بأنها بديهية، وواضحة، وذات طابع مفارق للتفاعل البشري، بحاجة ماسة للتفكير في التحولات التي تطرأ عليها في علاقتها بهذا التفاعل البشري اليومي.

ففي الفترة الأخيرة تصاعد الاهتمام بالجانب الأخلاقي في عصر السوق، عصر التعددية العرقية، طغيان المصالح، ومؤخرا ًصعود الشعبوية. حيث شغل البُعد الأخلاقي مساحة كبيرة في الأدبيات الدينية، الفلسفية، الاقتصادية، والاجتماعية، وهذا دليل على أهمية هذا الجانب في حياة البشر. غير أن الجانب الأيتيقي يُمتحن بشكل ٍ كبير في الجانبين الاقتصادي والتفاعل الاجتماعي، وذلك بسبب الإكراهات والمغريات التي تخضع لها هذه الجوانب. ففي الجانب الاقتصادي – محور هذا الملف – تنزل الأخلاق من المجال النظري، المسجون في الفكر وفي النظريات المختلفة، لتصل إلى الجانب العملي، التطبيقي، الذي يضعها أمام امتحان حول الصلاحية، والصحة، قبل إمكانية التطبيق.

فالأخلاق بوصفها مجموعة من المعايير الموجهة للسلوك مقرونة بدوافع عقلانية من جهة، والتزامات متبادلة بين مختلف الأطراف من الجهة الأخرى، أصبحت تتعرض لهجمات مختلفة، ليس حول أصلها كما عالج ذلك نيشته، – بل أيضا ً وهذا هو الأهم – حول قدرة هذه المعايير على الصمود أمام السعي المحموم للربحية على حساب القيم والمعايير من جانب، وعلى التصور الوجودي العميق للأفراد عن أنفسهم، وعن غيرهم من الجانب الآخر.

من هنا يأتي تمييز هيجل بين الأخلاق والحياة الأيتيقية التي تعني وجود فارق بين منظور المشارك الذي يسأل عن القواعد الصالحة في كل حالة، ومنظور المراقب النظري الذي يُرجع كل شيء للمعيار النظري الصرف، فهو في هذه الحالة – بحسب تأويل هابرماس – “يتبنى موقف مراقب إعادة البناء العقلاني الذي يريد أن يعرف ما إذا كان المشاركون، عندما ينخرطون في حياتهم وممارساتهم الاجتماعية، يمكن أن يعتبروا حياتهم الخاصة، وحياتهم المشتركة “خيّرة” أو لا”. حيث أن هذا السؤال يهتم بشروط ونجاح الاندماج الاجتماعي في مجتمع معين.

يطرح هذا الملف موضوع الأخلاق وعلاقتها بالاقتصاد تحديدا ً، بطرق تعبيرية مختلفة، وهي تهدف إلى وضع القارئ في مشارب معرفية متنوعة، وأساليب نظرية مختلفة، شغلت التداخل والتفاعل العميق بين الجانبين منذ فترة طويلة، كما يهدف هذا الملف لإعادة طرح السؤال الأخلاقي المزمن الذي لا يفارق (السلوك) البشري، وتناوله بصيغ ٍ مختلفة.

علي الرواحي

محرر الملف.

المحتويات

فكرة وتحرير
علي الرواحي
المتابعة
سمية اليعقوبي
المراجعة التحريرية واللغوية
خليفة الزيدي
هيثم المحرمي
تصميم
الشيماء الجهضمي