تعدُّ “ظاهرة العلاقات العنقودية” بين المسؤول الحكومي والموظفين، أو الناس في البيئات الاجتماعية العُمانية ظاهرة لافتة للنظر تحولت إلى معيار لاختيار من يشغل المناصب العامة؛ مما فتح المجال أمام الانتهازية للوصول إلى المراكز الطموحة في ظل غياب المعيار الموضوعي؛ فمعظم القرارات التي تسند الوظائف العامة العليا إلى أشخاص قائمة على “عنصر العلاقة”؛ ومع طول المكث في المنصب الحكومي الذي يصل إلى عقود تتحول تلك الوظائف إلى بؤر منتجة للفساد والترهل لا سيما عند ضعف قيم المسؤولية والنزاهة والمحاسبة.
وانطلاقا من العلاقات العنقودية فإن المسؤول الحكومي يمطر بوابل من الراحة النفسية على مريديه بمجرد السلام عليهم أو الالتقاء بهم، وفي أي ظرف من ظروف الحياة يفسح المجال لالتقاط صورة يمكن أن تكون مادة للظهور الاجتماعي؛ مما يجعل هذا اللقاء العابر مادة جيدة للتطبيل والنفاق السياسي والتملق لا سيما بعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وما صاحبه من تحولات اجتماعية وثقافية لا تنفصم عراها من الجذور الثقافية العربية منذ العهد الأموي من تاريخ الدولة العربية دون اكتراث بآلام الناس أو آمالهم في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية في المنطقة العربية برمتها؛ فأفرزت هذه الظاهرة ظاهرتين: فأما الأولى فهي ظاهرة التطبيل وظهور طبقة المطبّلين الذين يبحثون عن أي مادة صالحة للتطبيل والنفاق والدجل والتضليل كبيرة كانت أم صغيرة مثل ابتسامة المسؤول أو ممارسته لمهامه الروتينية اليومية، فالمسؤول وإن كان فاشلا في أدائه لا يذكر له إنجاز؛ إلا أن عبارة: “معاليه متواضع” كافية لسد أبواب النقد؛ وأما الثانية فهي “تضخُّم الأنا” عند المسؤول لمجرد شغله لمنصب حكومي من المناصب التي توصل إليها عبر “العلاقات العنقودية”، وفي السياق نفسه نلاحظ العبارات والهاشتاغات المختلفة التي تصنع للمسؤولين: “شكرا معاليك” و”ترجل الفارس” و”يستحق الشكر” كعادة المجتمعات العربية التي لا تفوتها المفردات اليومية لترتيبها ضمن المقدسات؛ على أن الكتابة الحرة تصادر بعبارة تطبيلية مستهلكة ولا تخلو من استفزاز تتمثل في قول المطبلين (رضي الله عنهم): “أبواب معاليه مفتوحة”؛ فالمسؤول لم يعد يمتلك المؤسسة وإنما بيده فتح الأبواب وإغلاقها، والكاتب عندما يتناول أمرا عاما فعليه أولا أن يهمس إلى “معاليه” حتى لا تنخدش ذاته.
يريد هذا المقال – كما يزعم كاتبه – أن يقف على هذه الظواهر بشيء من التأمل؛ والتي تحولت إلى طابع اجتماعي عام بسبب غياب الثقافة السياسية والنقدية؛ جعل من التطبيل إشكالا يتذرع بذرائع الشكر للمسؤول؛ علما بأن الشكر إن كان قيمة أخلاقية؛ فإنه في مجال السياسة لا بد أن يتسم بالطابع التبادلي (= الحقوق والواجبات) أو أن يتوجه به “المطبل” إلى كل موظف أو عامل بسيط في الدولة أو البيئة الاجتماعية؛ فالوزير في سياق المؤسسة العامة، كأي موظف يقوم بأعبائه الوظيفية مقابل أجر، وتوليه لمنصب حكومي لا يعني أنه “ربيبُ ملكٍ كأن الله أنشأه تبرا وقدّر إنشاء الورى طينا”، وتعقدت المسألة عندما تحول التطبيل إلى مقياس للوطنية الزائفة؛ فالمطبّل يمثل المدافع الوطني، والمنافح المخلص عن كل القيم والمقدرات في المجتمع؛ فهو الإيجابي الذي ينظر إلى الأمور بعين الرضا والتفاؤل وينتظر الفرج.
جذور التطبيل ومعناه:
لاحظ (الجابري، 2019) ظهور نوع من الكتابة الأدبية في بدايات الحضارة الإسلامية؛ يطلق عليه “الترسّل” يقوم الكاتب فيه بنسج عبارات وأساليب للدفاع عن الدولة وقرارات الخلفاء، ترسيخا لأخلاق الطاعة بكل السبل والوسائل؛ تحول إلى ظاهرة ثقافية في البيئة العربية يؤثر في “الرأي العام” باعتباره يمارس وظيفتين؛ ترتبط الأولى بعمليات التخليق العقلاني للرأي وصناعة القرار؛ بينما تمارس الثانية عمليات السيطرة الاجتماعية (تيليغا، 2016) التي تتقارب مع الكتابة الأموية (= الترسل) القديمة وأصبحت طابعا ثقافيا إلى يومنا هذا؛ بيد أن التطبيل أصبح مجانيا غالبا في ظل الأوضاع وضعف الثقافة وانقلاب المفاهيم على أمل أن يلتفت المسؤول إلى المطبل ولو بابتسامة أو صورة إزاء تطبيله؛ فهو يقود إلى رذيلة النفاق من حيث إنه “التملق والتقرب من ذوي الجاه والسلطة، من خلال العبارات الزائفة المرصوفة بمكر لغوي، حيث تكشف عن قدرة المطبل على بيع رأسماله الرمزي، وذلك بتضخيم التافه، وتزيين القبيح، وتقريب البعيد” (العباس، 2017)؛ فالمطبل لديه إشكالات ثقافية ونفسية، ومفاهيم مغلوطة تدفعه – بسبب ما يجد من واقع تولي المناصب عبر العلاقات العنقودية – إلى ممارسة التطبيل بجعله واجبا وطنيا، وشعورا إيجابيا نحو الوطن، ولا تتعلق الممارسة بالإنسان البسيط في تفكيره الذي يغفل عن مآسي الإنسان الآخر وينطلق من وضعه الاجتماعي للتطبيل؛ وإنما تتعلق بالمثقف نفسه أحيانا؛ الذي يسميه (العباس، 2017) “المثقف الطبّال” الخائن لوظيفته الثقافية من منظور جوليان باندا؛ فيتحول إلى عنصر من عناصر الفساد ضمن الجوقة العازفة على الأوهام والآلام، وهذا النوع من التطبيل السياسي الذي يمارسه المثقف هو ذات الممارسات في العهود الأموية والتي استمرت إلى يومنا هذا.
نلاحظ أنه بفعل ثقافة التطبيل تمارس جمعيات ومؤسسات ثقافية خيانتها، فتحولت إلى جوقات العزف التطبيلي، وباتت الثقافة غناء وطنيا أو نشيدا يسبح بحمد المسؤولين؛ لا سيما وأن معظم القائمين على تلك المؤسسات أو الممارسة الثقافية من جيل “شعراء البلدية” أو كتاب المؤسسات والمسؤولين الذين ينجزون أعمالهم وفقا لقائمة العرض والطلب؛ مع ظهور خبراء التحليل السياسي، والتسامح، والمواطنة في الساحة العمانية تقدم وفقا للوصفات والنكهات الخاصة، منهم من وجد طريقه إلى المناصب بفعل رصيد التطبيل والعلاقات العنقودية، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا؛ ولعل الإشكال الأساسي الذي دفع الناس إلى ضم هؤلاء إلى فئة المثقفين يرتبط بمفهوم “المثقف”؛ فليس “كل قارئ أو كاتب مثقفا بالضرورة” وإنما المثقف هو ذلك الكائن الذي يمتلك فهما خاصا، وممارسة فكرية مختلفة تدفع المجتمعات إلى الحرية والفردانية والحقوق السياسية والمدنية (الرواحي، 2017)؛ بيد أن الوضع الثقافي السائد الذي صدرنا به المقال هو الذي أدى إلى التخليط بين المفاهيم والممارسات، وجاءت ملاحظة الرواحي وجيهة بشأن الضعف الموضوعاتي في الممارسة الكتابية، وظهور الكاتب المحافظ، وهو الكاتب المترسل نفسه في العهد الأموي مع فروق في مستوى المعرفة والأساليب؛ فأصبح الكاتب ضمير السلطة والمسؤولين والمؤسسات وليس ضمير ذاته.
تضخم “الأنا” عند المسؤول العماني:
نقصد بتضخم الأنا في سياقنا، أن المسؤول بمجرد توليه منصبا حكوميا مميزا يعتقد بأن ذاته الإنسانية متميزة، ومختلفة عن الآخرين، فالأنا المتضخمة هي الصورة المتخيلة عن الذات بسبب الأوضاع النفسية والاجتماعية، ولعل أبرز العوامل التي تؤدي إلى تضخم “أنا المسؤول” العماني الممارسة السياسية في السلطنة وضعف المراقبة والمحاسبة وتراجع الصحافة والممارسات الثقافية؛ كما أن منظومة القوانين وتطبيقاتها تحمي ضمنا فئة المسؤولين وتدفع بأصحاب الرأي والنقد إلى المحاسبة والسجن، وكل ذلك يرتبط بطبيعة الثقافة السائدة التي تعد ميزة أو منظومة قيمية متفردة في بيئاتنا باعتبارنا مجتمعات أخلاقية مختلفة، كما أن غياب تشريعات تضع حدودا زمنية للقيام بعضوية مجلس الوزراء أنتج طبقة المسؤولين ودائرتهم المغلقة التي ميزتهم باعتبارهم أرستقراطيين ونبلاء لهم تاريخ مختلف ووجود حاضر متميز.
ويمكن إضافة عوامل أخرى دفعت إلى بناء “متخيل الأنا” كاعتبار الوظيفة العامة شرفا أضيف إلى هذه الأنا؛ لأنها في الأصل متعالية ومضخمة ومختلفة، والدليل احتفاظ الدولة على الرغم من ظهور الدستور والمؤسسات بمفردات التراتبية الاجتماعية (= الشيوخ والرشداء والأعيان) وكانت بوابة إلى البورجوازيات الدينية والقبلية، ولكننا عندما نتعمّق في سيكولوجية هذه الذات نجدها تبحث عبر العلاقات العنقودية عن هذه المناصب لا ليضيف إليها، وإنما تسدّ نقصا وافتقارا في الذات؛ فهي ذات تعتقد أن المنصب بمجر الحصول عليه يحول الشخص إلى إنسان عبقري ومتميز لا يشق له غبار في المعرفة والثقافة والإنجاز؛ فتتعالى الأنا؛ زد على ذلك وجود طبقة المطبلين الذي يسبحون بحمد المسؤول في كل حركاته وشأنه حتى في ابتسامته وتواضعه دون النظر إلى التقييم الفعلي وإنجازه في ظل المِحكَّات والاختصاصات الوظيفية.
ولعل أبرز مظاهر التضخم في المسؤول العماني اعتقاده التماهي بين الوظيفة بوصفها ممارسة عامة (= خدمة بمقابل الأجر وفقا لأسس العقد الاجتماعي في النظرية السياسية) والإنسان؛ فالمسؤول ينظر إلى المنصب وكأنه جزء من هذه الذات المضخمة، وهي السبب في الحصول عليه؛ لأنها متميزة عن عامة الناس؛ فلا تقبل النقد ولا الذكرى؛ لذلك يلفت القرآن إلى هذه الحالة المرضية في الإنسان عند الامتلاك في قوله تعالى: “قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ”؛ أفرز هذا الوضع النفسي عند المسؤول لا سيما في ظل غياب سلطة القانون والمحاسبة استغلالَ المنصب عند النقد عوض مناقشة القضية المطروحة أو البحث في الفجوات وتراجع الإنجاز؛ فالمسؤول لا يتحمل “الخدش” لهذه الأنا الصقيلة المنتشية؛ فليلجأ إلى التعسف في التأويل ومحاولة مصادرة حرية الكاتب، ويحاول تشغيل علاقات للإيقاع بالكاتب المذنب، وكأن الأخير عندما يمارس نقد المؤسسة يتناول شيئا من ممتلكات المسؤول بسبب التماهي بين الشأن العام والخاص من جهة، وبين الصفة الوظيفية والشخص الطبيعي من جهة ثانية، وفي هذه الظروف يدخل التطبيل ليمارس المغالطات والتغني بالإنجازات ونحت آيات الشكر وكأن الحقوق أعطيات يمنحها المسؤول للمواطن.
المراجع:
- تيليغا، كريستيان، علم النفس السياسي، تر. أسامة الغزولي، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2016
- الجابري، محمد عابد، العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2019.
- الرواحي، علي سليمان، ماركس في مسقط: بحوث حول البنية المادية وتوزيع الثروات وتاريخية القوانين، بيروت: جداول للنشر، 2017
- العباس، محمد، المثقفون الطبالون مجرمو السلم، القدس العربي، 2017.
مصدر الصورة: https://cutt.ly/zkbUOpP