الصورة للبروفيسور جاوْبَه ومعالي الشيخ عبد الله بن محمد السالمي على هامش مؤتمر “إباضية عُمان”، الذي عُقد بجامعة توبنجن الألمانية في مايو ٢٠١١[2]
وُلد المؤرخ والعالم الألماني هاينز جاوْبَه في يوم الثامن من سبتمبر سنة ١٩٤٠ في المدينة التشيكية تشيسكا ليبا، ورحل عنا قبل أيام في العاصمة الألمانية برلين في العشرين من العام الحالي، بعد سيرة حافلة بالترحال والعطاء والبحث والمعرفة. يُعدّ البروفيسور جاوبه من بقية المستشرقين الألمان الكبار الذين قدّموا إسهامات جليلة في مجال الدراسات الاستشراقية. وقد حظيت سلطنة عُمان باهتمام هذا المؤرخ الكبير؛ فقد بدأ توجّهه في دراسة عُمان منذ سنة ١٩٩٥، وقام بإدارة المشروع البحثي البيني: Transformationsprozesse in Oasensiedlungen عمليات التحول في مستوطنات الواحات في عُمان. وأجرى بحوثًا حول الحضور العُماني في المناطق المحيطة بالمحيط الهندي. وكان له إسهام مهم أيضا في إنتاج الفيلم الوثائقي Atlantis der Wüste، الذي عملتْ على إنتاجه القناة الألمانية 3sat سنة ٢٠١٢، وكان موضوعه عن واحات الربع الخالي. كما قدّم جاوبه محاضرة بعنوان: Die Omanis in Ostafrika العُمانيون في شرق أفريقيا، في جامعة توبنجن في إطار معرض التسامح ٢٠١٩، الذي تُشرف عليه وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عُمان. وقد أشرف على تنظيم مؤتمر The Ibadism of Oman إباضية عُمان، الذي عُقد سنة ٢٠١١ في جامعة توبنجن بألمانيا، كما له دراسات ومقالات عن الفن الإسلامي في عُمان والمصاحف المزخرفة وعن قصر جبرين وعن الحضور العُماني في زنجبار.

نَشر تلاميذُه، المؤرخ الألماني البروفيسور Lorenz Korn، والباحث في الدراسات الإيرانية الدكتور Florian Schwarz، والمتخصّصة في الدراسات الإيرانية أيضا البروفيسورة Eva Orthman، كتابا رائعًا تكريمًا له سنة ٢٠٠٨ بعنوان: ” Die Grenzen der Welt: Arabica et Iranica ad honorem Heinz Gaube”، يتضمن مقالات لعدد من الباحثين[3]، وقد احتوى على مقدمة تعريفية بالبروفيسور جاوبه بعنوان: ” Von Aleppo bis Zitadelle. Heinz Gaube als Forscher und Lehrer، من حَلَب إلى القلعة، هاينز جاوبه باحثًا ومعلّمًا”، وعلى توثيق مفصّل لبحوثه ودراساته، يضيء مسيرته الحافلة بالبحث والاستقصاء والمعرفة، وأسفاره ورحلاته العلمية في مدن الشرق الإسلامي المختلفة.
لم أحظَ بلقاء جاوبه، ولكني صادفتُه كثيرًا من خلال مقالاته الرصينة وإسهاماته العلمية وعطاءاته المعرفية في كثير من المجلات العلمية المرموقة، فلقد لفتني بحثه وتمكّنه واستقصاؤه، وشاءت الأقدار أن يُلقي جِرانَه بعُمان، بعد ذلك الترحال والتطواف في بلدان شتى من الدنيا، وتكون أرض عُمان محطًّا لدراساته وشغفه البحثي.. فقد عاش في عُمان بعد تقاعده من جامعة توبنجن الألمانية، منذ سنة ٢٠٠٨ حتى ٢٠١١، وكان له اهتمام مبكّر قبل ذلك بعُمان، فاستفاد منه ثلّة من طلبة العلم هنا وحملة الدراسات العليا وصَحِبه لفيفٌ من الأكاديميين العُمانيين[3]، وعمل في مشاريع مختلفة لعدة مؤسسات علمية وأكاديمية في البلد[4]، ثم عاد بعدها ليقضي سنواته الأخيرة في برلين.
كان جاوبه أستاذًا جامعيًّا متخصصًا في الدراسات الإيرانية في سمنار الدراسات الشرقية بجامعة توبنجن الألمانية. بعد إكماله المدرسة في منطقة بِنْوَا Benua بمدينة هاله Halle الألمانية، تلقّى تدريبا مهنيا في علم البَصريات وصناعة الساعات، وأدار هناك بنجاح لعدة سنوات محلا للبصريات، ولم يُنهِ مسيرته المهنية هذه إلا ارتحاله إلى مدينة حلب في سوريا، كما غيرت شغفه بالبصريات رؤيته لقلعتها الشهباء فأغرم بها ودارت عليها أهم بحوثه ودراساته! وبدءا من عام 1965 تنقَّل جاوبه في مدن عالمية عدة في أثناء دراسته، فدرَس في هامبورج وفيينّا وسانت بطرس برج الروسية وبيروت ولندن، في حقل الدراسات الإسلامية والإيرانية والساميّة وتاريخ الفن وعلم الآثار والإلهيات (العهد القديم). وعمل بعد حصوله على الدكتوراه عام 1970 في هامبورج، والتحق حتى عام 1975 بالمعهد الاستشراقي للجمعية الشرقية الألمانية في بيروت كمحاضر في البداية ثم اشتغل بالمنح البحثية، وصدرت له في هذا الوقت دراساته الثلاث الأولى. وقد نال لقب الأستاذية عام 1976 من جامعة فرانكفورت. وقد سبق تعيينَه أستاذًا للدراسات الإيرانية في جامعة توبنجن عام 1978 عملُه أستاذًا زائرًا في جامعة نيويورك سنة 1977.
درّس جاوبه عام 1981 برتبة أستاذ زائر “عمارة وبناء المدن الإسلامية، تاريخًا ونظريةً ونقدًا” في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في مدينة كامبريدج بالولايات المتحدة الأمريكية. وعيّن كذلك منذ 1982 أستاذًا في جامعة توبنجن، ولكن هذا التعيين حدث في وقت كانت فيه اضطرابات سياسية أدت إلى توقف البحوث الميدانية في إيران وأفغانستان، فوضع كل طاقته في إنجاز المشروع الضخم “أطلس توبنجن للشرق الأدنى والشرق الأوسط” الذي أشرفت عليه الجمعية الألمانية للبحث DFG، فساهم في الإشراف على المشروع وأخرج بالاشتراك مع مجموعة من الباحثين ١٥٦ مجلدا وسلسلة من الملاحق تحتوي على ١٣ خريطة و٥ دراسات. وأسّس مركز أبحاث المَسكوكات الإسلامية، إذ سعى حثيثا إلى جلب مجموعة خاصة ذات قيمة كبيرة من العملات والنقود الإسلامية عرضت للمزاد العالمي في الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية الثمانينيات، إلى جامعة توبنجن وتأسيس مركز بحثي علمي لها. وأسس كذلك مركز بحوث التاريخ الاقتصادي والتجاري لشرق المتوسط والشرق الأوسط CEBHEM.كما أجرى جاوبه العديد من الأبحاث الميدانية، منها على سبيل المثال: إجراؤه بحثًا ميدانيًّا من 1968 إلى 1974 في جنوب غرب إيران، ولبنان، على العمارة الريفية، وفي حلب في سوريا في العصور القديمة المتأخرة، والإسلام المبكّر، والكتابة العربية (١٩٨٤)، وأجرى دراسات وخرائط لبَزار مدينة أصفهان الإيرانية (١٩٧٨). وأجرى بعد عام 1975 بحثًا في مدن إيرانية وفي منطقة سيستان ومكران، وبحثًا آخر في التخطيط الحضريًّ في مدينة هِرات الأفغانية Herat، وعمل على فَحْص نشأة وشكل المستوطنات الريفية في اليمن ومدينة الطائف في المملكة العربية السعودية (١٩٩٣). كما أجرى مسحًا أثريًّا جنوب عَمّان (الأردن)، وشارك بشكل فاعل في مشروع إعادة تصوّر يقوم على المشاهدة الحية لمراحل التطوّر التاريخي الذي وقع لمدينة حلب القديمة في سوريا، وليس إلى مجرد إقامة متحف لها، ولذلك قام بتأسيس جمعية “أصدقاء مدينة حلب القديمة” عام ١٩٩٠، ومقرّها مدينة شتوتجارت الألمانية، لتُستخدم أموالها في إجراءات الترميم للمشروع، وقد ساهم أيضا في العمل على إقامة معارض كمعرض Die Gaerten des Islam حدائق الإسلام ١٩٩٣، وِ Erben der Seidenstraße-Usbekistan ١٩٩٥، مستثمرا التعاون بين جامعة توبنجن ومتحف Linden في مدينة شتوتجارت، كما عمل مستشارًا لمشروع وضع تصوّرات لترميم مدينة حِمص القديمة، وأجرى بحوثا ودراسات حول بناء المقابر الإسلامية في باكستان، واشتغل بقضايا العمران والاستيطان للمدينتين الأوزبكيتين خَيوة وبُخارى، ومستوطنات الواحات في سلطنة عُمان، وعمل على تأسيس برامج للدبلوم والدراسات العليا وأرشيفا ومعارض وإقامة مؤتمرات وندوات في مجال العمران الإسلامي.
كان إذن مغرمًا ومشغوفًا بالبحث والتنقيب عن العمارة والإرث الحضاري الإسلامي، في القصور والقلاع والنقوش والمساجد وتجليات العمارة الإسلامية في مختلف مظاهرها. وله إسهامات كبيرة وتآليف عدة وسيرة حافلة بالبحث والكتابة، فكتبه تزيد على العشرين كتابًا، وله عدد وافر من البحوث المحكّمة التي نشرها في مجلات علمية لها مكانتها في الأوساط العلمية[6]، سأقتصر هنا على سرد دراساته المتعلقة بعُمان:
- Illuminated Qurans from Oman. Hildesheim- Zuerich- New York 2016
- Islamic Art in Oman. Muscat 2008، بالاشتراك مع د. عبد الرحمن السالمي وLorenz Korn، له ترجمة عربية، مسقط ٢٠١٤.
- Oman A Maritime History. 2017، بالاشتراك مع د. عبد الرحمن السالمي وEric Stales
- The “Jabrin Collection”: royal tableware service, Hildesheim; Zuerich; New York: Georg Olms Verlag, 2021
- The Ibadis in the Region of the Indian Ocean. Section One: East Africa. Hildesheim-Zuerich- New York 2013.
- The Ports of Oman. 2017، بالاشتراك مع د. عبد الرحمن السالمي وEric Staples
- Transformationsprocesses in Oasissettlements in Oman. Muscat 2010، بالاشتراك مع Anett Ganler.
- الفلسفة الأخلاقية[7]. مسقط ٢٠١٦، بالاشتراك مع محمد الشيخ.
إنّ مثل هذه السطور القليلة بطبيعة الحال لن تفي جاوبه حقّه ولن تردّ له فضله، فقد ترك لنا إرثا علميا زاخرا وعطاء ممتدًّا ثرًّا بحاجة ملحة إلى الاعتناء به والبناء عليه، ولكنها محاولة متواضعة لإظهار شيء من ذلك الإجلال والامتنان الذي نكنّه لهذه القامة العلمية الكبيرة، فلروح جاوبه السلام ولأسرته وأصدقائه وطلابه العزاء.
المصادر والمراجع
- Die Grenzen der Welt Arabica et Iranica ad honorem Heinz Gaube hrsg. von Lorenz Korn u. a. Wiesbaden: Reichert, 2008 .
- Lorenz Korn: Von Aleppo bis Zitadelle. Heinz Gaube als Forscher und Lehrer. In: Die Grenzen der Welt : Arabica et Iranica ad honorem Heinz Gaube. Korn, Lorenz; Orthmann, Eva; Schwarz, Florian (Hg). Wiesbaden, 2008. S. 5 – 9
- Michael Braune u. a.: Ein Forscher zwischen den Kulturen. Festgabe für Heinz Gaube zum 80. Geburtstag. EB-Verlag, Berlin 2020.
روابط من الإنترنت:
- https://de.wikipedia.org/wiki/Heinz_Gaube
- https://uni-tuebingen.de/universitaet/aktuelles-und-publikationen/newsletter-uni-tuebingen-aktuell/2011/3/forschung/2/
- https://programm.ard.de/TV/3sat/atlantis-der-wueste/eid_280078085863776
- https://idw-online.de/en/news422194
- https://unexplainable-world.com/ubar-das-atlantis-der-wueste/
- https://www.youtube.com/watch?v=RIAZUCyZupY
- https://arabischeshaus.de/unsere-naechste-ausstellung/
- https://islam-akademie.de/index.php/bibliographie-terminologie/1006-heinz-gaube-1940-bibliographie?fbclid=IwAR0yJI1nb5XGIPyt74_ZQSu34UzUAHO_0wDme6ftCEWYM75OGkk-FWrya4w
[1] الشكر هنا لجميع من قدموا لي مصادر ومعلومات لإعداد هذه المادة، وأخص بالذكر منهم البروفيسور Lorenz Korn، والدكتور عبد الرحمن السالمي، والدكتور خالد البلوشي، والأستاذ Joachim Duester.
[2] مصدر الصورة: https://uni-tuebingen.de/universitaet/aktuelles-und-publikationen/newsletter-uni-tuebingen-aktuell/2011/3/forsch
[3] Die Grenzen der Welt Arabica et Iranica ad honorem Heinz Gaube hrsg. von Lorenz Korn u. a. Wiesbaden: Reichert, 2008
[4] للدكتور عبد الرحمن السالمي مقال احتفائي بالبروفيسور جاوبه بعنوان: Recollections of the “Grey Wolf” Heinz Gaube and a Quarter of a Century of Oman Studies، يتحدث فيه بشيء من التفصيل عن إسهامات البروفيسور جاوبه في الدراسات العُمانية، نُشر سنة ٢٠٢٠ ضمن مجموعة من مقالات لبعض تلامذة البروفيسور وأصدقائه بعنوان: Ein Forscher zwischen den Kulturen, Festgabe für Heinz Gaube zum 80. Geburtstag ، بمناسبة مرور ثمانين عاما من حياته، ويُعدّ الدكتور السالمي من أبرز الباحثين العُمانيين الذين صحبوا البروفيسور جاوبه وأسهموا بالاشتراك معه في عدة دراسات مهمة تتعلق بعُمان.
[5] الجدير بالذكر هنا أيضا أن مكتب مستشار صاحب الجلالة للشؤون الثقافية (سابقا) قام باقتناء المكتبة الشخصية للبروفيسور جاوبه، وهي مجموعة خاصة تحتوي على كتب ووثائق وبحوث ودراسات مهمة، وذلك بالتنسيق مع جامعة توبنجن الألمانية.
[7] أعدّ تلميذه الدكتور Serdar Aslanببليوغرافيا مفصّلة لإسهاماته العلمية، يمكن الاطّلاع عليها من خلال هذا الرابط: https://islam-akademie.de/index.php/bibliographie-terminologie/1006-heinz-gaube-1940-bibliographie?fbclid=IwAR0yJI1nb5XGIPyt74_ZQSu34UzUAHO_0wDme6ftCEWYM75OGkk-FWrya4w
[7] أصله مجموعة محاضرات للبروفسور بالإنجليزية، ترجمها إلى العربية محمد الشيخ.