الخارجية

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

قراءة رواية سر الموريسكي

الروائي محمد العجمي

دار عرب للنشر ٢٠٢١م

                                             “شيء ما عاطفي تراه في كل سر يجعلك عاجزًا عن إصدار الأحكام، أو كما كان والدي يقول لأمي على الدوام: تبدأ الحياة بعد الباب المغلق” ص٢٠.

أول ما يلفت نظرنا هو العنوان، السر الموريسكي، قد يعني الموريسكي شأنًا قصيًا وبعيدًا، فإذا افترضنا أن مرجعية المكان تعني الشرق، فإن الموريسكي شأن أكثر غربية، ويخص المغرب أكثر، فإذا ما عرفنا أن الرواية تدور في النصف الأول من القرن السابع عشر، وغالبية أحداثها تدور في أوروبا الغربية، فإن ذلك البعد وتلك المسافة القصية يتأكدان أكثر، رواية عمانية تتناول هذه المواضيع، وهي لا تعالجها بسطحية، بل بعمق وتفصيل يشي بحجم البحث والجهد الذي يقف خلف هذا العمل الفني، والبراعة الفنية التي تقود القارئ عبر رواية قد لا تمت له ظاهريًا بصلة، لكنه يجد فيها صدى يشبه الصدى الذي يتردد داخله.

“الروح القوية لا تكشف أسرارها ولا تكذب على نفسها، وحده من يخاف أن يخدعه الشيطان يحتاج ليعترف بحقيقته الضائعة. يحتاج للاستثناءات كي يكون مقبولًا عند الله”. ص٤٨

هل نستطيع القول بعدها بما أن الروائي عماني ودار النشر عمانية أن هذه الرواية عمانية؟ ربما هي عمانية بحكم الأرض، كما أن بطلها إنجليزي بحكم الأرض كذلك حسب كلام ياكب أو يعقوب خوليوس أستاذ العربية والرياضيات بجامعة لايدن الهولندية. أحد أبطال سر الموريسكي.

تبدأ الرواية بانسحاب السفينة إلى البحر، تعبير الانسحاب تعبير لافت في تأسيس الرواية، ويصب في مصلحة هذه القراءة لأنه بنظرها يشير إلى خروج أول، خروج تأسيسي، تنعكس عليه كل الرواية وأبطالها، نتعرف على صوت الراوي وهو نفسه البطل الرئيسي روبرت فيبن، وهو إنجليزي لكن الرواية تنطلق معه خارجًا من امستردام الهولندية، خارج أرضه، وقد ابتاع مطبعة عربية، خارج أرضها الطبيعية، ويقع مباشرة منذ الفصل الأول للرواية هو وطاقم السفينة التي تقله في شباك الأسبان، لينتقل إلى سجن أسباني في سان سبستيان يصادف فيه أحد المور، وهو يوسف الموريسكي، أحد أبطال الرواية كذلك، والذي نكتشف فيه خارجيًا من نوع آخر، هو خارج عن القانون بحكم وجوده في السجن، يضاف إلى ذلك انتماؤه إلى المور وهم بقايا المسلمين والعرب في الأندلس بعد خروج العرب منها وسقوطها بيد الاسبان، نصادفه في شتات آخر، خروج مضاعف، مطرودًا من بلاده خوف التصفية وواقعًا بعد اغتراب فرنسي في يد مطارديه، ورغم أنه ولد وعاش في أرض يطلق عليها إسبانيا تلك اللحظة لكنه مطرود عنها بالقوة، قوة عدم الاعتراف بإسبانيته ولا بمحاولته التنصرية إذ لا يصدق الإسبان صحة عقيدته المسيحية.

“مع انعدام الحرية. لن تكون هناك أي طريقة مشروعة للتعبير عن حبك لشيء ما”. ص٢٨

تتشابك أقدار روبرت بيوسف الموريسكي حتى يفضي الأخير للأول بعقدة الرواية، أو بخيط سرها، وسردها، وهي عقدة البحث عن خزانة مخطوطات عربية تحملها بقايا عائلة يوسف الهاربة والمشتتة، وعبر بناء الرواية تكشف الحبكة عن نفسها في حيوية إيقاعية جاذبة، لم تخرج فيه عن خط الزمن التصاعدي الكلاسيكي، لكنها أثرته بانكشافاتها اللاحقة على طول الخط تصاعديًا مع نمو الرواية.

في متابعة البطل لخزانة المخطوطات العربية نكتشف خروجًا آخر، فهذه مجموعة كتب عربية من التراث العربي موجودة خارج بيئتها الطبيعية، في أوروبا، في خروج علمي وأدبي هذه المرة،

المخطوطة بالنسبة لي مشروب روحي. تستغرقك بالكامل. ص٩٣

عبر المطبعة العربية يتمكن البطل من الحرية، وعبرها كذلك يتمكن من العيش والحياة، فبإتقانه للطباعة العربية، لمهارة خارج أرضها الطبيعية، يتمكن البطل من العيش والتنقل منساقًا خلف رغبة العواصم الأوروبية آنذاك في طباعة الكتب العربية، سحر الشرق وبداية ميلاد الاستشراق، تلك المطبعة الخارجية تكون هي عون هذا الخارجي، لكن لندقق هناك، في ذلك العصر، في كون هذه المطبعة مرفوضة في أرضها، عربية مطرودة وغريبة، عن لسانها وأهلها:

متفكرًا في كلام قديم قاله والدي المورسكي وذكره أيضا ياكب عن رفض شعوب الشرق للمطبعة. ربما سنحتاج لأكثر من مائتي حرف ثقب لكي نرضي أذواق المشارقة. ص١٧٤

ستحتاج المطبعة إلى مائة سنة أخرى حتى تصل لقلوب شعوب الشرق. ص٢٤٩

هكذا تتطور الرواية، وتصعد ليخرج بطلها من السجن وبدل أن يعود مباشرة إلى بلاده الإنجليزية، يستمر في خروجه الطويل الذي لا ينتهي إلا مع نهاية سطور الرواية الأخيرة.

الخروج كزاوية نظر:

تتيح الرواية بخروجها، نوعًا من التحرر، عبر هذا الموريسكي، المنبتّ والمقطوع، الخارجي:

ماذا يعني أن أكون من المور؟ هذا آخر ما يمكن أن أطلبه. إنهم شعب بلا أرض، بلا وطن. يعني أنهم بلا هوية ولا انتماء. لا يعرفون، هل هم أفارقة أم أوروبيون؟ هل هم بربر أم قوط وغاليون؟ هل هم عرب أم إسبان؟ هل هم مسلمون أم مسيحيون؟ إنهم شعب ممزق محطم، سرق منه حاضره، وبالتالي مستقبله. كيف سيعيش من لا يستطيع أن يورث وطنًا لأطفاله؟ لا أريد أن أكون منهم. ص١٦٠

ينقب الموريسكي عن أثر عربي، وبذلك تسمح الرواية للقارئ العربي أن يرى انعكاسه في الخارج، خارج دائرته الثقافية المعتادة، وجهة نظر مختلفة للذات، وحتى للآخر، تقوم الرواية على الاختلاف لتقدمه للقارئ ليرى نفسه في النهاية، وكم يغدو ذلك الخروج ثريًا بهذه الطريقة:

نحن لا نثير فيهم أي فضول يا روبرت. بينما هم يثيرون فينا كل فضول. هؤلاء العرب لا يريدون أن يعرفوا عنا أي شيء، بينما ننحن نعرف عنهم كل شيء. ما هو السبب؟

لا بد أن لديهم شيء ما ليس لدينا. انظر كيف يحطمون الاختراعات التي تأتيهم من عندنا. حتى لو كانت مفيدة وتسهل عليهم الحياة. بينما نحن نقتني حتى آثارهم البالية التي لم يعد أحد يفكر فيها. إنهم أكثر بساطة منا. ص٢٨٣

عبر هذه النظرة الخارجية، إن صحت التسمية، نرى في الذات شيئًا آخر، نوعًا من سر، ليس هو سر الموريسكي الظاهري بقدر ما هو سر الرواية نفسها، الرواية العربية العمانية، لأن كل ذلك الخروج والبعد والمسافة عاد ليصب في النهاية في الجذور نفسها، هنا والآن، الابتعاد الزمني عاد لينسكب في اللحظة المعاصرة هذه ٢٠٢٢م.

إن الخروج الذي نعنيه نجده أكثر وضوحًا ودلالة في مصائر أبطال الرواية، فكلهم في خروج عن ذاتهم، حتى عن أسمائهم وهوياتهم، فإذا كان سر الموريسكي يقوم على أثافي ثلاثة هي يوسف الموريسكي في السجن الأسباني، والزوجة المفقودة نجمة الحجَرية في الجزيرة، والخالة هند والخادم حسن، فإن السبل تقطعت بهم جميعًا، ولم تفلح غير الخالة التي عادت إلى حلب، لتعرف التقدير لعلمها ومعرفتها الذاتية، لا لحمولة المخطوطات المخبأة، في تبطين غير واعي عن نجاح هذا المسار العائد وحده، فيما تقطعت السبل ببقية المسارات، وأنكرت حياتها وسجنت، بل وسلبت حتى الاعتراف في حمل أسمائها فضلًا عن بنوتها وأبوتها وأمومتها، وحين تكتمل ثالثة الأثافي في مسار الرواية يتمكن البطل أخيرًا من إشعال النار الحقيقية، وهي تلك المخطوطات التي تغدو فيما بعد سبيل النجاة الأكيد للجميع، فيما يمكن أن نقرأ فيها اشارة المعنى الثقافي والحمولة المعرفية.

رواية الموريسكي رواية خوارج إن صحت التسمية، خارجية بشكل ما، وعبر ذلك الخروج أمكنها تلمس كينونتها، وذاتها وثقافتها وعقيدتها نفسها، وهي إن كانت تقدم عبرة عميقة للقارئ المعاصر فلعل تلك العبرة تبدأ من ذلك الخروج الدائم الذي يتسيّد مناخاتها ومحطات بطلها الذي يظل يتجنب العودة للوطن ليطوف المدن الأوروبية والشرق أوسطية ويكشف فيما يكشف ليس عن ذاته وسره وهدفه وحسب، بل وكذلك عن ثقافته وزمنه، وذلك الخروج تحديدًا هو الذي يجعل هذه الرواية رواية معاصرة، رغم تاريخيتها، هي عربية، فوق منشئها ولغتها، بتلك الروح التي تتبع الأثر العربي في الغرب، وتكشف عن جذور تأثيره على الحاضر العلمي في بواكير عصر الأنوار الأوروبي، وبذلك تكشف الرواية عن هويتها، أو سرها، كرواية عربية أخيرًا، لم تنقصها البراعة ولا الدقة في رؤية وتسجيل التفاصيل الصغيرة حتى لأزقة المدن الأوروبية بواكير القرن السابع عشر، فضلًا عن روح العصر آنذاك.

سر الموريسكي رواية بخروجها تعيد النظر للخارج والداخل معًا، للثقافة العربية نفسها وللغتها وهويتها، وللإنسان بمشاعره وانتماءاته الأصيلة والزائدة، والانعكاس الثقافي الشامل لما هو داخل وخارج في نفس الوقت. 

أدب العدد الأخير العدد الثاني والثلاثون بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد