قراءة في “النظام العالمي الجديد” ج1

كتب بواسطة نبال خماش

———————————

اسم الكتاب: النظام العالمي الجديد ” تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ”

المؤلف: هنري كيسنجر

ترجمة: د. فاضل جتكر

الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت

2015، ط1

تعريف بالكاتب

على مدى ثماني سنوات متواصلة من سبعينيات القرن الماضي،  كان هنري كيسنجر الشخصية الأكثر تأثيرا وحضورا على مستوى قمة الدبلوماسية الدولية، كان النجم الذي استأثر بأضواء المسرح العالمي في فترته، فبهرت شهرته وسلطته، وطريقة إدارته للملفات العالقة ومنطقه ومجمل سماته الشخصية والعملية، كلها كانت عناصر ولدت لدى السياسيين المعاصرين لتجربته،حالة من الإعجاب وأحيانا الانبهار، تخللها أصوات مستنكرة ورافضة من جهة متحفظين كثر على مواقف محددة من سياسته، فارتبط اسمه بدعوات مطالبة محاكمته بوصفه مجرم حرب.

ورغم هذه التعارضات والتباينات الحادة في النظرة، فإن الغالبية العظمى من الزعماء والسياسيين الشاهدين على تجربته، حسبوا له بدل الحساب ألف، والكل كان يستشهد بمواقفه وأقواله باعتبارها نصوصا مستوحاة من كتاب السياسة المقدس. أما المثقفون وحتى الناس العاديين، والحديث هنا مرتبط تحديدا بمنطقتنا العربية، فإن كل من عايش مرحلة السبعينيات، وبغض النظر عن مستويات الوعي لصاحب المعايشة، فان اسم هنري كيسنجر بقي محفورا عميقا في ذاكرتهم الجمعية، ليغدو مضرب المثل في السياسة والدهاء وفبركة الأحداث والمواقف.

بعد هذه التقدمة والتعريف المجمل عن الرجل، من الطبيعي أن يثور داخل العقل جملة تساؤلات… لماذا كل هذه الحظوظ لهذا الرجل تحديدا دون سواه من سياسيي ودبلوماسيي العالم؟ هل هي قدرات ذاتية مميزة في الفهم والمثابرة؟ أم أن الرجل صادف مجالا سياسيا ملائما وموافقا لطموحاته على المستويين: الأمريكي المحلي، والدولي، وعرف ببراعة كيف يستثمر هذا الظرف لصالحه؟ وهذه أيضا إن كانت هي سبب سطوع شهرته، فإنها تضاف بدرجة غير قليلة إلى قدراته الذاتية، ليفتح بذلك احتمال ثالث مكمنه هذه القدرة في المواءمة بين القدرات الذاتية واستثمار الظرف المحيط. ولكل من هذه التساؤلات إجابة بشواهد عديدة تجنح منتصرة لهذا التبرير أو ذاك.

على مستوى الظرف الخارجي، نجد بالفعل وفرة في العوامل المساعدة لينفرد كيسنجر طيلة هذه الحقبة من الزمن بأضواء السياسة الدولية، أولها: أن الرئيس الأمريكي، ريتشارد نيكسون، الذي عمل كيسنجر ضمنإدارته مستشارا لشؤون الأمن القومي ثم وزيرا للخارجية. كانت حركة هذا الرئيس مشلولة بالكامل في تلك الحقبةنتيجة تورطه بفضيحة “ووترغيت” ذائعة الصيت، وحتى يتمكن الرئيس من معالجة هذه الأزمة فقد أعطى كيسنجر ما يشبه التفويض الكامل كي يتصرف على النحو الذي يرتأيه في السياسة الخارجية، فالتقط الأخير هذا التفويض وأقبل عليه إقبال المتعطش للسلطة وحيازة القوة، وكل من يقرأ مذكرات هنري، يجد هذا البعد حاضرا وبقوة في شخصيته، تطلع لاحتكار أوجه أنشطة لدبلوماسية الأمريكية، والنتيجة الحتمية لهذا التفويض والتفرد أن أقبل عليه قادة العالم وزعماؤه وسياسييه وتعاملوا معه باعتباره البوابة التي لا يمكن لأحد الولوج أو التعاطي مع السياسة الأمريكية دون أن يمر من خلالها.

ليس ذلك فحسب بل إن أثره على عموم الإدارة الأمريكية في أي شأن خارجي كان واضحا، وكانت كلمته هي الفصل في هذا الشأن، حتى أن وزراء اختصاص، مثل وزير الدفاع كان يرجع أولا لكيسنجر طلبا لاستشارة أو حتى لاستصدار قرار أو أمر عسكري، وفي فرص لاحقة كان يتم اطلاع الرئيس على القرار الذي اتخذه كيسنجر، نجد هذا البعد في قرار كيسنجر تشكيل جسر جوي لدعم إسرائيل في حرب أكتوبر 1973، كان كيسنجر صاحب القرار في المسألة أولا وأخيرا رغم أن المسألة مرتهنة بقرار الرئيس ووزير الدفاع وفي صميم صلاحيتهما.

سبب ثان من أسباب سطوع نجم كيسنجر على مسرح السياسة الدولية، له ارتباط وصلة بظاهرة عالمية رصدها عدد من المفكرين والدارسين العالميين، فحوى هذه الظاهرة أن العالم وبعد مرور ربع قرن تقريبا على انتهاء الحرب العالية الثانية، شهد حالة من التراجع لدور الزعامات العالمية والشخصيات التي كان لها بالغ الأثر في شعوبها وفي العالم، وأن ظاهرة كاريزما القائد والزعيم التي عرفها العالم بكثافة لمدة تجاوزت نصف قرن، تلاشى حضورها منذ بداية السبعينيات، ولم يستطع القادة والسياسيين الجدد ملء الفراغ الذي تركته هذه الشخصيات مثل: غاندي، تشرشل، ديغول، جمال عبد الناصر، ماوتسي يونج، روزفلت… هذه الحقبة خلت أو كادت تخلو من الشخصية القائد أو الزعيم أو البطل. ويبدو أن كيسنجر التقط هذه الإشارة، أو الملاحظة التاريخية التي نبهإليها مفكرون ومؤرخون في فترته، وعلى الأرجح أنه أخذ يعد نفسه ويهيئها لتمثل الدور النموذج. وكان مفتاحه العملي للعب هذا الدور وسائل الإعلام المتاحة في فترته: صحافة، إذاعة، تلفزيون، فكان حريصا في أي مرحلة من مراحل عمله أو في أي نشاط يقوم به أن يكون منفتحا بالكامل على وسائل الاعلام،  التي تشبه النار لجهة عدم الارتواء أو الشبع، النار لا تشبع من الوقود أو الحطب، وكذا وسائل الإعلام لا تشبع من الأخبار والأسرار، وهنري يحوز كل الأخبار والأسرار، فتلاقى شغف الإعلام بالخبر مع شغف كيسنجر وتوقه للشهرة، وأدى كل دوره على أكمل وجه. وفي هذا البعد ترددت مقولة عنهباعتباره أول سياسي جعل الإعلام مرتبطا درجة الالتصاق بأدائه. فأظهره الإعلام باعتباره نقطة ارتكاز الخبر والحدث السياسي في العالم، القابض على الملفات الشائكة والمستعصية، والوحيد القادر على حلحلتها وفك عقدها.

على المستوى الذاتي، امتلك كيسنجر جملة من السمات التي أهلته ليصبح واحدا من أهم المفكرين السياسيين الأمريكيين على الإطلاق في مرحلته، أولى هذه السمات قدرته البارعة على المزج بين النظرية والتطبيق، وقدرة ذهنية وفكرية خاصة في التعاطي مع المسائل الفكرية والعملية، واقتناص اللحظة المناسبة لصياغة ما هو نظري وإحالتهإلى جانب عملي تطبيقي.إنها موهبة لم يمتلكها باقتدار سوى عدد قليل من السياسيين على مدى مائة عام الماضية، وهذا العنصر هو الذي ميزه عن الخمسة وأربعين وزيرا للخارجية الأمريكية الذين سبقوه، فعمله السياسي تأسس على مبادئ وأفكار محددة. ومنبع هذه الأسس النظرية أنه بالأساس أستاذ جامعي، إلا أن شغفه وطموحه السياسي تجاوز الأطر الأكاديمية وقواعدها، وبقي متطلعا ليفرغ طاقاته النظرية الكامنة خارج الحدود الأكاديمية والبحثية البحتة. حتى رسالته التي تقدم بها لنيل شهادة الدكتوراه، والتي كان موضوعها يبحث في دبلوماسية القرن التاسع عشر، استطاع أن ينفذ من خلال هذه الدراسة التاريخية ليضع المبادئالعملية العريضة التي التزم بها في سياسته لاحقا، وهي المبادئ التي تقوم أساسا على فكرة حيازة القوة وامتلاكها، باعتبار أن القوى المنتصرة هي الوحيدة المؤهلة لصياغة العالم ورسم معالم نظامه. وبالاضافة الى نظرية القوة هناكنظرية التوازن، ونظرية القوة مضافا اليها التوازن هما جوهر المذهب السياسي الذي التزم به كيسنجر والذي يعرف بـ”السياسة الواقعية” وهي المدرسة التي أطلق على هنري باعتباره أبوها، وله أتباع وتلاميذ كثر، على المستوى الأمريكي والعالمي.وباعتباره أحد مؤسسي المدارس السياسية، فقد كان شديد النقد للسياسة الأمريكية في خمسينيات  القرن الماضي واعتبرها غير ملائمة وغير مواكبة للظرف الدولي الذي يشهده العالم في تلك المرحلة والذي كان من أبرز سماته ظاهرة سباق التسلح التي بلغت ذروتها في استخدام الولايات المتحدة السلاح الذري.

أخذت أفكار الأكاديمي الناقدة للاستراتيجية الأمنية الأمريكية تلقى اهتماما ومتابعة من قبل دوائر القرار في أمريكا، فكلفه مجلس العلاقات الخارجية إعداد دراسة لصالح مجلة “الشؤون الدولية” يوضح من خلالها مبررات شكوكه في السياسة والدبلوماسية الأمريكية، إضافةإلى تقديم بدائل لهذه السياسة، ونشر البحث عام 1955 تحت عنوان” السياسة العسكرية والدفاع عن المناطق الرمادية” ثم طوّع الأفكار المتضمنة في الدراسة وتوسع في مضامينها من خلال إصدار كتابه “الأسلحة الذرية والسياسة الخارجية” الذي نشر عام 1957، واستغرق إعداد الكتاب وتحريره ثمانية عشر شهرا، كرس له كل وقته وعزل نفسه عن العالم المحيط،  ولم يكن يستجيب لأي ظرف حوله يشغله عن مشروعه، وذكر محرر مذكراته أنه استغرق في عمله لدرجة أنه طلب من زوجته أن لا تحادثه في أي شأن، ولم يلتفت إلى الانتقادات التي وجهت اليه باعتباره يتعامل مع أسرته بصورة غير إنسانية. وقد أحدث الكتاب بعد صدوره ضجة حقيقية ليس في الوسط السياسي داخل أمريكا، وإنما أدرج الكتاب لمدة 14 أسبوعا باعتباره الكتاب الأفضل مبيعا. ليأخذ اسم كيسنجر منذ هذه اللحظة بالصعود على نحو تدريجي، وانهالت عليه العروض سواء من مؤسسات رسمية ومراكز بحث، إضافةإلى دعوات لا تنقطع لإلقاء محاضرات في إستراتيجيات الأمن القومي تحديدا، ليبدأ منذ هذه اللحظة رحلته في طريق سيادة الدبلوماسية الأمريكية. فشغل منصب مستشار الأمن القومي، ثم وزيرا للخارجية. وبعد اعتزاله رسميا العمل السياسي جرى تعيينه في عهد الرئيس رونالد ريغان،رئيسا لهيئة فيدرالية تهدف لتطوير السياسة الأمريكية. كما عينه بوش الابن رئيسا للجنة المسؤولة عن التحقيق في أسباب هجمات 11 سبتمبر. ورغم عمره الذي تجاوز 94 عاما فلا زال هنري مقصد سياسيين ومفكريينيسعون وراء مشورته والاستفادة من رأيه في العديد من القضايا الدولية، هذه الآراء التي صاغها في كتابه الذي بصدد عرض أفكاره الرئيسية، تحليلا وشرحا، ونقدا عبر ثلاث حلقات ينشرها موقع الفلق الإلكتروني.

عرض الكتاب

استهل المؤلف مقدمة كتابه على صيغة تساؤل معرفي بشأن أي نظام عالمي نريد، ومنذ البداية  يعلن هنري انحيازه المطلق للتجربة الأمريكية على امتداد القرن العشرين، باعتبارها تجربة تتسم بالمرونة، تراعي المعايير المشتركة، تحتضن نظاما اقتصاديا ليبراليا، تنبذ الغزو الإقليمي، تحترم السيادة القومية-الوطنية، تتبنى أنظمة الحكم القائمة على المشاركة والديمقراطية. إلا أن هذا النظام، الذي هذه هي سماته، بات يواجه اليوم عددا من التحديات، أبرزها أن القرن الحادي والعشرين  يشهد حالة من الفوضى المهدِّدة في ظل انتشار أسلحة دمار شامل، إضافة إلى مشهدية تفكك دول، وتمادي ممارسات إبادة الجنس، وانتشار أشكال من التكنولوجيا تهدد برفع مستوى الصراع، ليتساءل بعد سرد هذه الظواهر الخطيرة وغيرها: هل نحن في مواجهة فترة تتولى فيها قوى عصية على قيود أي نظام محدد لمصير المستقبل؟ تصبح( هل نحن في مواجهة فترة تكون فيه قوى عصية على قيود أي نظام، هي القادرة على تحديد معالم المستقبل؟)

وفي سبيل الإجابة عن هذا السؤال، يرجع بنا كيسنجر، باعتباره مؤرخ العلوم السياسية بالدرجة الأولى، إلى اللحظة التاريخية التي لا زال يكررها منذ اشتغاله بعالم الأفكار، إنها اللحظة التي يتعامل معها باعتبارها معيارا لأي تطور أو نهضة بشرية، ومن وحيها يمكننا استلهام واجتراح الحلول، هذه اللحظة هي مؤتمر صلح وستفاليا (1648) في ألمانيا، الذي يعتبره أول اتفاق دبلوماسي في العصر الحديث، أرسى نظاما جديدا في اوروبا مؤسس على مبدأ سيادة الدول، وذلك بعد حرب مذهبية دامت ثلاثين عاما فوق الأرض الألمانية وثمانين عاما بين أسبانيا وبريطانيا. ومنذ إبرام هذه الاتفاقية وإلى اليوم والدول الأوروبية ملتزمة ببنودها الأساسية، تنأى كل دولة عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وبقي مبدأ توازن القوة هو المعيار الأساسي في جمح الطموحات المنفلتة. كيسنجر يعتبر في كتابه هذا، كما في سائر طروحاته النظرية، أن هذا الاتفاق منظومة لا زالت قابلة للتطبيق على مستوى عالمي، حتى وإن مر عليه خمسة قرون كاملة.

مقابل هذا النظام الأوروبي في معنى السلام والتوازن، يعرض كيسنجر على نحو سريع، ليأتي التفصيل لاحقا في فصول متخصصة بكتابه، للأنظمة السياسية التي سادت تاريخيا في أقاليمها ولا زالت تسود ولها حضور فاعل ومؤثر، كنوع من المقابلة غير المباشرة مع النظام الغربي. فهناك التصور الصيني للنظام العالمي الذي يقوم أساسا على فكرة زرع الرهبة في المجتمعات الأخرى عبر عظمة الصين الثقافية وسخائها الاقتصادي، وهناك التصور الإسلامي الذي لا يقر إلا بتوحيد العالم ضمن إطار سياسي واحد وعقيدة واحدة وسيادة واحدة على العالم. ثم يأتي المنظور الأمريكي الحديث الذي يأخذ عليه كيسنجر أنه لم يستند بما فيه الكفاية إلى نظام التوازن في القوة الأوروبية، وإنما بلوغ السلام عبر نشر مبادىء الديمقراطية.

بالمقارنة مع هذه النظم الثلاث، يرى كيسنجر أن النظام الوستفالي هو الأقدر على استيعاب الطابع الفوضوي في العالم من خلال تبنيه شبكة واسعة من البنى الحقوقية والتنظيمية لرعاية التجارة وخلق نظام مالي عالمي، وأنه الأقدر على ترسيخ مبادىء مقبولة من أجل حل النزاعات الدولية. غير أن هذا النظام عرضة للتهديد، وأول مصادر التهديد السياسة الأوروبية نفسها التي عمدت إلى تخفيض مستوى قدراتها العسكرية، على الرغم من كونها مبتكرة مفهوم توازن القوة. وثاني مصادر التهديد هي الأصولية الاسلامية المنخرطة بتمزيق مجتمعاتها وتفكيك دولها بحثا عن رؤى ثورة عالمية أصولية. وتأتي الولايات المتحدة كمصدر ثالث لتهديد هذا النظام، بسبب تأرجح أمريكا بين تمسكها بجل المبادىء الوستفالية وشجب مقدمتها الأساسية المتعلقة بتوازن القوة. وعلى نحو غير مباشر يشير كيسينجر إلى مهمته في هذا الكتاب، إنها الخاصة بالموازنة بين المشروعية والمثل من جهة، وبين القوة واستخداماتها؛ ليصيغ من خلال هذه الموازنة تصوره للنظام العالمي الجديد.

الفصل الأول: أوروبا النظام الدولي التعددي “فرادة النظام الوروبي”

يرى كيسنجر أن للثقافة الأوروبية خصوصية تميزها عن سائر الثقافات، فانقساماتها التاريخية وتشظي كياناتها، كانت هي الباعث الحقيقي والمحرك الفاعل في سبيل ازدهارها. ولتوضيح هذه الفكرة يستغرق المؤلف في سرد مكثف لمسارات التاريخ المتشابكة والمعقدة لهذه القارة، ابتداء من تفكك الامبراطوية الرومانية، وصولا إلى إبرام اتفاقية وستفاليا، مرورا بالعصر الوسيط الذي كان محكوما بشبكة علاقات معقدة بين الأطراف الرئيسية: البابا وإمبراطور روما وحشد من الحكام الإقطاعيين.

وإذا كان للصين امبراطورها، وللإسلام خليفته، فإن أوروبا بقيت لقرون تحلم بوحدتها القروسطية “الإقطاعية”، وهو ما لم يستطع إمبراطور روما المقدسة توفيره لسبب أنه كا شبه مجرد من أي جهاز بيروقراطي امبراطوري تحت تصرفه. غير أن الحلم أوشك على التحقق مع صعود عائلة هابسبورغ في إمبراطورية النمسا، وغدت هذه العائلة مصدر الأباطرة المنتخبين لحكم الإمبراطورية الرومانية والنمسا وأسبانيا وعدد غير قليل من المساحات الاوروبية التي تشمل اليوم هنغاريا، بلجيكا، هولندا، إيطاليا الشمالية، ألمانيا، التشيك، هنغاريا، فرنسا الشرقية. لقد خضعت معظم أوروبا لسلالة مشحونة بنوع من الإحساس بتفويض سماوي. وبسبب عدم تعزيز السلطة من خلال مرجعية مركزية، فان أوروبا لم تخض تجربة شبيهة بتجربة الخلافة الاسلامية او الامبراطورية الصينية.

ومع دخول أوروبا عصر الاستكشاف وعصر الطباعة، أخذ النظام القروسطي السياسي والديني في أوربا بالتفكك، وأخذت الانشقاقات داخل الكنيسة تتعمقنتيجة دعوات الإصلاح الديني. فدخل الإصلاحيون في صراع مرير باتجاهين في نفس الوقت:النظام السياسي لإمبراطورية هابسبورغ من ناحية، والبابوية من ناحية أخرى، كان الصراع على البقاء وفي سبيل تأكيد استمرارية الصلاحية محتدما. وعمت أوروبا فوضى الحروب والاقتتالات الطائفية والمذهبية، كان أهمها على الإطلاق حرب الثلاثين عاما.

ومن صميم الفوضى والتشظي والاقتتالات المذهبية والسياسية، انبثق سلام وستفاليا الذي مر بسلسلة من اللقاءات، اتسمت بالبساطة ظاهرا، والجدية الحقيقية في المضمون، والهدف هو تجاوز المأزق. القوى الكاثوليكية انتخبت 178 مشاركا من مجمل الدول المؤلفة للإمبراطورية الرومانية، أما القوى البروتستاتية فقد اختارت 235 مندوبا، ونتيجة سلسلة من اللقاءات الموزعة على فرق ولجان، وتوقيع أكثر من اتفاق، نتيجة ذلك كله شكل هذا السلام، وستفاليا، منعطفا في تاريخ الأمم، لأن القوى التي شكلته وأوجدته كانت كاسحة وخالية من التعقيد، والفكرة الجوهرية هي تأكيد سيادة الدولة، وحق كل طرف في اختيار بنيته الداخلية وتوجهه الديني بعيدا عن أي تدخل، إضافة إلى تمكين الأقليات الطائفية من ممارسة شعائرها بعيدا عن مجالات الهداية القسرية.

أما بنية العلاقات السياسية فقد أرست الاتفاقية مبدأ توازن القوة، المنطوي على نوع من الحياد الأيديولوجي والتكيف مع ظروف متطورة، وأن لا يكف السياسي عن التأقلم والاستجابة للمتغيرات، وهو المبدأ الذي عبر عنه السياسي البريطاني في القرن التاسع عشر، اللورد بالمرستون، من خلال اقرار مبدأ: “نحن لا نملك حلفاء دائمين، كما لا نواجه أعداء أبديين. أما مصالحنا فهي دائمة وأبدية وتلك المصالح هي التي يتعين علينا مراعاتها”. وبمواجهة اللعنات التي تستهدف هذا الاستغلال الكلبي للقوة، وعدم مبالاته بالمتطلبات الأخلاقية المعنوية، فإن كيسنجر يرى في هذه الاتفاقية أول محاولة لمأسسة نظام دولي قائم على أسس وحدود متفق عليها، بدلا من هيمنة بلد واحد.

لم تأخذ اتفاقية وستفاليا مفاعيلها النظرية والعملية بصورة مباشرة بعد صدورها، حيث بقيت الساحة الدولية في حالتها الطبيعية ولم يكن ظاهرا في الأفق قوة قادرة على تأسيس نظام عالمي بصورة عملية، حتى برزت بريطانيا كقوة بحرية رئيسية مع حلول أوائل القرن الثامن عشر. عندئذأخذت تلوح في الأفق إمكانية بلورة نظرية لمعاني توازن القوة على هيئة نظام سياسي. ويستدرك المؤلف ليضيف أنه كان في أوروبا توازن للقوة تمت إدارته على مدى ما لا يقل عن مائتي عام بعد التسوية الوستفالية: هناك التوازن الشامل الذي تولت بريطانيا دور الوصية فيه، وهاك التوازن الخاص بأوروبا الوسطى، الخاضع أساسا لتحكم فرنسا، وكان هدفه الرئيسي الحيلولة دون انبثاق أي المانيا موحدة في وضع يمكنها أن تصبح الدولة الأقوى في أوروبا. وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر أخذت بروسيا تبحث عن مكان لها بين القوى الرئيسية. وبالفعل تمكن الملك فردريك من احتلال مكانة مهمة في أوربا بعد معارك طاحنة، تأكد من خلالها فكرة أنمن أراد أن يحوز عضوية جديدة في النظام الاوروبي، فعليه أن يسلك مسالك القتال المرير.

بعد فترة من تشكل عصرسياسي جديد في أوروبا،  ظهرت من خلاله القارة  أكثر تلاحما عما كات عليه في تاريخها، بدت معالم عصر جديد يتشكل وفق ما بات يعرف بعصر التنوير، انتصارات جديدة في العلم والفلسفة بدأت تحل محل اليقينيات الأوروبية المتمزقة المستندة إلى التراث والإيمان. أدّى التقدم العاصف للعقل على حشد من الجبهات: الفيزياء، الكيمياء، الفلك، التاريخ، العقلانية… إلى تدعيم الروح الجديدة للتوير العلماني المبشر بأن تجلي سائر آليات الطبيعة الخفية لم يك سوى مسألة وقت.

هذا الاختمار في أساليب التفكير، مستندا إلى روح تحليلية، جرى الاستعانة بها لغايات تطبيقية عملانية غايتها رسم معالم أولية لمفاهيم تتعلق بالمشروعية السياسية في النظام الدولي. وكان لفلاسفة التنوير الأثر الأكبر في رسم مستقبل أوروبا في تلك الحقبة، وتجسد هذا الأثر على نحو واقعي من خلال اندلاع الثورة الفرنسية، هذه الثورة التي اكتسبت زخما لم يتوقعه حتى أولئك الذين صنعوها. ولبلوغ الثورة أهدافها الكبرى الرافضة لسائر المؤسسات التقليدية القائمة: مؤسسات ملكية، الدين، الطبقات الاجتماعية، مرجعية الحكم، باعتبار هذه المكونات زائفة ووهمية،  دأب قادة الثورة على تطهير بلدهم من كل امكانية لنشوء معارضة داخلية، فتفشى العنف الذي ذهب ضحيته ليس فقط منتسبين إلى طبقات حاكمة أو رموز مدانة بالفساد، بل حتى أولئك الذي كانوا مؤيدين للثورة إلا أن لديهم تحفظات وتساؤلات عن منهج الثورة وأسلوبها وغاياتها الختامية، هؤلاء أيضا كانوا من ضحاياها. وبقيت الأمور على هذا النحو حتى مجيء نابليون بونابرت، الذي نجح في ترويض الثورة وحرص أن يكون هو الضامن لها. من خلال محاولته المغامرة في توحيد أوروبا كلها تحت حكمه الإمبراطوري. وكاد مشروعه يحقق غايته لو عقبتان ظهرتا أمامه لم يكن من السهل تخطيهما: بريطانيا وروسيا.

يختتم كيسنجر فصله عبر تأكيده لفكرة انتمائه المطلق لأوروبا وأمريكا في آن معا،  من خلال إشارته الختامية، التي يفتتح بها فصله الثاني، إنها الخاصة بالصراع الأوروبي مع روسيا في عهد نابليون بونابرت، عندما تمثلت روسيا الروح الوستفالية وزحفتإلى قلب أوروبا بقوة طاغية وبالغة الضخامة، وصولا إلى احتلال باريس في نهاية الحرب.

نقد للفكرة:

ينطلق كيسجر في تحليله لتاريخ أوروبامن فكرة واحدة لا غير، هي أن العالم اليوم يعيش في حالة فوضى أو ضبابية في تحديد الهوية، وأن النموذج الأفضل والمعيار السياسي الأسمى لتجاوز هذه الحالة يكمن في الاقتداء بالتجربة الأوروبية التي عاشت بسلام قرابة 150 عاما في إطار نظام اتفاقية “وستفاليا” التي يعتبرها النموذج الأمثل والجدير في التعميم من خلال انبعاثه على هيئة  نظام عالمي جديد. ومبادىء هذا النظام الاساسي ثلاثنقاط: الدولة هي الوحدة الأساسية في النظام. الاعتراف بسيادة الدول الأخرى. الحد من طموحات الدول لبعضها البعض.

غير أن هذه الدعوة الكيسنجرية لا ينبغي الركون إليها باعتبارها من المسلمات السياسية، للاعتبارات التالية:

أن هذه التجربة كانت مرتهنة فقط بتجربة سياسية للأمم الأوروبية حصرا، أما سائر أمم العالم فهي لم تشارك فقط في صنعه، وإنما أيضاً لم ترضى بهذا النموذج وتطبيقاته على نحو مطلق، وتحديدا التجربتي السياسيتين المواكبتين لهذه التجربة: التجربة الاسلامية، والثقافة الصينية، فلكل من هاتين التجربتين مخزون نظري، وتجارب تاريخية غنية، يمكنها من إدخال إضافات وتحسينات عديدة على النظام الوستفالي المقترح. ناهيك بالطبع أن هذا الطرح ليس محل اجماع حتى من قبل مراكز سياسية وبحثية أمريكية متخصصة، وهي التي أطلقت قبل أكثر من عشر سنوات مصطلح “أوروبا القديمة” أو “أوروبا العجوز”، والذي جسد حالة التنافر في الرؤية السياسية بين ضفتي الأطلسي. هذه الأولويات بخطوطها العريضة تصطدم بصورة مباشرة مع الفكرة الكيسنجرية الداعية إلى ضرورة التعامل مع الفكرة الوستفالية باعتبارها المخلص والهادي إلى نظام عالمي جديد.

ثمإن السرد التاريخي الذي يعرضه كيسنجر للحالة الأوربية بعد إقرار هذه المعاهدة، يشير بصورة جلية إلى تقهقر المبادىء الكبرى لهذه الاتفاقية، وفشلها في البعد التطبيقي وهي على أرضها وفي بيئتها الثقافية الحاضنة، فكيف إذا خرجت من هذه البيئة وجرى زرعها بالإكراه، أو تعميمها بصورة قسرية. في هذا الفصل، نجد عددا وافرا من الاستشهادات والأمثلة التي ساقها كيسنجر، وهي أمثلة تدل مدى التغول في انتهاك دول أوروبية قوية سيادة واستقلال دول أخرى في ذات الاقليم، وبصورة تنبىء أنشروط وبنود هذه المعاهدة لم تكن رادعا بصورة كافية دون تدخل الدول في الشؤون الداخلية لدول أخرى. إضافة الى أن أفكار ومفاهيم مثل “التوازن” و”حق السيادة” و” الوحدة” بقيت تطبيقاتها، في حقبتها المثالية، محصورة ضمن النطاق الجغرافي الخاص بالقارة الأوروبية، وأنكرتها على دول خارج نطاق القارة الاوروبية، وعلى شعوب هذه الدول. والذي حدث تاريخيا أن أوروبا وعلى مدى ما لا يقل من أربعمائة عام جهدت في سبيل نزع السيادة وإنكارها عن دول العالم، وبدلا من التوحيد جرى اعتماد سياسة التفتيت والتجزئة، هذا الواقع التاريخي كان كفيلا بتفريغ مفهوم التوازن من معناه. إن دلالات هذا الاتفاق ومقاصده وغاياته الختامية، تستهدف قوى محددة في العالم الغربي، ولا تعطي كثير اهتمام لدول العالم الأخرى، إن لم يكن العكس.

إن افتتان كيسنجر بالتاريخ الأوروبي وتجربته السياسية، جعله يتناول وعلى نحوتفصيلي المسارات التاريخية للقارة الأوروبية لأكثر منألف عام، ولم يكد يغادر أي تحول إلا وأشبعه تحليلا، ما عدا تحول هام، تجاوزه ولم يأت على ذكره ولو بإشارة مقتضبة، وكأنما يحاول تناسيه أو القفز عنه. هذا التحول مرتبط بمرحلة الحروب الصليبية، التي تعد جزءا أساسيا من التاريخ الأوروبي، وهي الحرب التي دامت قرابة ثلاثة قرون شن فيها الغرب سلسلة من الحملات العسكرية على المشرق العربي وآسيا الصغرى بدوافع سياسية واجتماعية ودينية يختص معظمها بالتوترات التي كانت تعيشها أوروبا في تلك الحقبة. هذه المرحلة على أهميتها لم يتناولها كيسنجر على الأقل في سياق طرحه لتطور الفكرة السياسية في القارة الأوروبية.

الثاني والثمانون سياسة

عن الكاتب

نبال خماش

كاتب أردني