الفلسفة عند أفلاطون هي الجدل، وعند أبيقور طلب السعادة، وعند الكندي صناعة وفن الحق، وعند إخوان الصفاء هي طب الأصحاء بينما الشريعة طب المرضى. عند ديكارت هي شجرة جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزياء وبقية العلوم هي الأغصان، وعند باسكال حتى عندما تسخر من الفلسفة فهناك فلسفة، وعند هيغل؛ موضوع الفلسفة والفن والدين هو واحد، والاختلاف في الصورة فقط، وعند ماركس؛ الفلسفة لا تفعل سوى أنها تأوّل العالم. وعند برغسون هي الوحدة، وعند هوسرل؛ تبدأ الفلسفة بالذهاب إلى الأشياء نفسها. إن رحلة فكرية حرّة داخل تاريخ الفلسفة؛ منذ العناصر الأربعة عند اليونان إلى العصر الحاضر وهي تلامس خوارزميات الذكاء الاصطناعي؛ ستنتهي إلى أن الفلسفة هي كل ذلك.
د. زكريا إبراهيم يرى أن الفيلسوف هو موحّد الأفكار، ومن هنا ربما يثيره ظنّ البعض بأنها باتت بضاعة غير مرغوبة بعدما أزالها العلم من عرشها. تفنيد هذا الظن ليس بالعملية السهلة وليست متاحة للجميع، إذ أن مشكلات الفلسفة لا تنتهي، والفيلسوف بالتالي هو إنسان “سالك” ولن يصبح يوما “واصل”، وهو بالتالي رجل الإنكار والانفصال والمعارضة. لا ينفي زكريا إبراهيم أن الفيلسوف يضحّي بالكثير من أجل التفلسف، والسؤال المهم الذي يطرحه: هل تستحق الفلسفة ذلك؟ إنها تستحق لأنها “تلك الرسالة الإنسانية الكبرى التي تفرضها علينا طبيعتنا العقلية نفسها”. (زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، مكتبة مصر 1971، ص17)
دفاع د. زكريا عن الفلسفة أمام المنتقصين منها؛ يماثله كذلك دفاع مواطنه د. عبد الرحمن بدوي الذي يربط الفلسفة بتحقيق معنى الانسان وإدراك مدلول الحياة وسرّ الوجود، ولعمري إنها مرتبة عظيمة للفلسفة عند بدوي. هذه المرتبة لا تتحقق بحسب بدوي بدون أن يشتغل الناس فعلا بها، والتفكير فيما تثيره من مشكلات وتساؤلات. فهي الغاية من كل الجهود التي يظن بدوي أن الفلاسفة يبذلونها على مرّ التاريخ؛ لكي يعيشها الناس كممارسة ونشاط. لهذا بدوي في جزء من نظرته للفلسفة؛ يشترك مع الفيلسوف الكندي بأنها فنّ للعيش. ومن هنا هي إشكالية في نفس الوقت. لأنها تستوعب داخلها كل المتضادّات، وتريد أن تنفذ إلى بواطن الأشياء. (عبد الرحمن بدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، وكالة المطبوعات 1975، ص48)
د. طه عبد الرحمن لا يبتعد كثيرا عن ذلك عندما يعتبر الفلسفة نفسها جوابا على السؤال: “ما الفلسفة؟”، فأنت في اللحظة التي تحاول أن تعرف الفلسفة؛ أنت تتفلسف. صحيح أن ذلك لا يجعل من السائل بعد تحصيل الجواب فيلسوفا على حد تعبيره، ولكنه يلفتنا إلى نقطة مهمة، وهي اندماج ما هو فلسفي فيما هو ليس فلسفي داخل السؤال عن ماهية الفلسفة. وهكذا لا تصبح الحدود واضحة تماما بين الفلسفة ونقيضها، ومن هنا تأتي المحاولة الطاهوية للنظر العلمي في الفلسفة؛ تمييزا عن النظر الفلسفي الذي يصلح لموضوعات الفلسفة وليس للفلسفة نفسها. (طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة، المركز الثقافي العربي 1995، ص14)
بهذه التصوّرات الثلاثة؛ نطوف بك عزيزنا القارئ في عوالم هذا الملفّ الفلسفي. بالفلسفة كرحلة مستمرة لا تنتهي، وبالفلسفة كطريقة وأسلوب للعيش، وبالفلسفة وهي تحتضن داخلها كل تناقضاتها. إنها صبغة عامة تكاد تجدها عند جميع المتفلسفة؛ ومنهم ضيوفنا في هذا الملفّ الذي اخترنا معهم أن يكون الحوار مفتوحا، وفي نفس الوقت لا يغادر ثيمة عامة حول الشرط الحضاري ورهان الفلسفة عربيا، مدفوعين بالإنتاج الخصب والتنوع الكثيف لإنتاج هؤلاء الفلاسفة الذين دانت لهم شجرة الفلسفة من شرقها وغربها، فأتحفوا ساحة الفكر العربي بأسئلة وأفكار وأعمال ما تزال تشحذ العقول وتستقطب قرّاء ومفكّرين يتجادلون معها على أكثر من مستوى.
إن طبيعة الإنتاج الفكري لفلاسفتنا في حوارات هذا الملف فرضت علينا الاشتغال بالسؤال الحضاري عربيا؛ أين هو موقعنا في خريطة الإبداع الفلسفي عالميا؟ وهنا لا نسأل تحديدا؛ هل توجد فلسفة عربية؟ فهذا سؤال استهلكته الأقلام، وإنما نسأل ذلك مسترشدين بالآراء التي تقدمت لكل من زكريا إبراهيم وعبد الرحمن بدوي وطه عبد الرحمن؛ بممارسة النشاط الفلسفي؛ بطرح الأسئلة واستفزاز العقول لتنتج شيئا ذو قيمة؛ تشتغل في الواقع اليومي المعاش. فهكذا فقط تولد الفلسفات والتيّارات والمدارس، وتصبح الفلسفة؛ كما قال أحد ضيوفنا؛ لا تموت لأنها حاجة بشرية.
التقيتُ بضيوف هذا الملف فكريا قبل أن ألتقي بهم فيزيقيا بسنوات كثيرة. وإذا كان الزواوي بغورة هو الأوّل من الفلاسفة الخمسة، عندما بدأت أقرأ له وأنا أدرس ميشيل فوكو في وقت من منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، غير أن محمد المصباحي يظلّ هو الأقرب إليّ؛ لأسباب كثيرة ليس مقامها هنا، ولكن ربما بحكم مصاحبتي لكتبه الفترة الأطول؛ وخصوصا كتبه عن ابن رشد وابن عربي. محمد شوقي الزين هو الأخير من ضيوفي في هذا الملف؛ إذ لم أبدأ في القراءة له سوى منذ سنوات؛ عندما لاحظت أن فكره يكمّل نقصا مهما لديّ في التفكير في الهوامش المُبعدة من دوائر الاهتمام عادة. عبد الله السيد ولدبّاه، حظي من فكره ربما هو الأقلّ، فصحبتي له كانت عبر التسجيلات التي بقيت حريصا على متابعتها؛ خصوصا لتلك الندوات التي كان يشترك فيها بمؤسسة مؤمنون بلا حدود؛ على الرغم أن كتابه عن أعلام الفكر العربي يزيّن مكتبتي منذ سنوات! وعلى ذكر المكتبة؛ فربما أعترف بأن حظ عبد السلام بنعبد العالي من مكتبتي هو الأعلى. لعلّ ذلك لأن كتبه صغيرة ومكثفة، مع عناوين ملفتة بسبب غرابتها، مع سهولة واضحة تعزز الاستشفاء بأسلوبه في الكتابة، والذي يذكرني بطريقة الفرنسيين في كتابة الشذرات.
إن اللقاء الذي جمعني بالمفكرين الخمسة في ملتقى بيت الزبير الأول للفلسفة في مايو من العام الجاري 2022، هو ما فتح النافذة لجمع الفلاسفة الضيوف على مائدة حوار فلسفي كتابي تجتمع مادّتها في هذا الملفّ الذي نرجو أن يجد فيه القارئ الكريم بعض فائدة أو متعة عبر صحبة علماء أجلّاء؛ ترك تواضعهم العلمي أثرا جميلا عندي؛ وهم يخصّصون وقتا لمدافعة أسئلتي التي ربما كانت مكتنزة بالتساؤلات. فكل الشكر والتقدير لهم، والشكر قبل ذلك لمجلة الفلق التي كانت السبب وراء استغلال فرصة تواجد ضيوف مؤسسة بيت الزبير في السلطنة لنتمكّن من التحاور معهم خلال أيام الملتقى وبعده.
ربما يجدر الإشارة هنا بأني نهجت في الحوارات بأن نوّعت فيها على ثلاثة أشكال؛ الأسئلة السريعة التي وجّهتها للجميع على شكل استطلاع فلسفي سيجده القارئ في أوّل الملف، ومن ثم الأسئلة المطوّلة المشتركة بين الجميع، والتي جمعت الاستجابات عليها تحت عنوان واحد، حيث سيجد القارئ أربع موضوعات من هذا القبيل وزّعتها في ثنايا الملف. وأخيرا الحوار بطريقته الكلاسيكية المعتادة؛ على شكل أسئلة وأجوبة. آملا ألا يكون هذا التوضيح هنا من الكلام الزائد.
محمد العجمي
محرر الملف